تحقيقات ومقابلات

شهـر عسـل جـديـد بـيـن بـايـدن ومـاكـرون

باريس: ميشال أبونجم

كم يبدو بعيداً شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، حينما أصيبت العلاقات الفرنسية ــ الأميركية بضربة موجعة بعد أن أعلنت أستراليا فسخ عقد بقيمة 56 مليار يورو مع فرنسا كان مقدراً أن تحصل بموجبه على 12 غواصة تقليدية الدفع، وذلك في إطار شراكة استراتيجية سياسية ــ دفاعية طويلة المدى. وما أغضب باريس أن كانبيرا، بدفع من رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون، استعاضت عن الغواصات الفرنسية المفترض أن تكون نسخة مطورة من الغواصة الفرنسية «باراكودا» التي تنتجها «نافال غروب» الفرنسية، بتوقيع عقد للحصول على عدد أقل من الغواصات الأميركية ــ البريطانية، التي تعمل بالدفع النووي.
وتزامن هذا التطور مع إعلان تحالف عسكري ثلاثي، أميركي ــ بريطاني ــ أسترالي، غرضه الوقوف بوجه التمدد الصيني في منطقة الهادئ ــ الهندي، واستبعاد فرنسا، وأي دولة أوروبية أخرى عنه، علماً بأن فرنسا تعد إحدى القوى الرئيسية في هذه المنطقة. وأعقبت ذلك أزمة سياسية جدية بين باريس وواشنطن، إذ اعتبرت الأولى أنها، وفق كلمة جان إيف لو دريان، وزير الخارجية وقتها، «طُعنت في الظهر».
وحاول جو بايدن الرئيس الأميركي، بعدها مباشرة، التواصل مع ماكرون، إلا أن الرئيس الفرنسي رفض الرد على الاتصال. ودامت الأزمة أشهراً حتى القمة الأطلسية في روما، وتقديم بايدن ما يشبه الاعتذار لماكرون مقروناً بـ«خريطة طريق» للعلاقات بين الطرفين.
اليوم، أصبح هذا الخلاف من الماضي، لا بل إن العلاقات الشخصية بين الرئيسين انتقلت من النقيض إلى النقيض، والدليل على ذلك أن «البيت الأبيض» دعا الرئيس الفرنسي إلى «زيارة دولة» هي الأولى من نوعها منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض. وستتم الزيارة في الأول والثاني من شهر ديسمبر (كانون الأول). وكما هو معلوم، فإن «زيارة الدولة» هي الأعلى في السلم البروتوكولي، وتعكس وجود علاقة خاصة بين الداعي والضيف، معطوفة على مصالح استراتيجية متنوعة.
وما بين نوفمبر الماضي واليوم، حصل تغيران مهمان بالنسبة لحادثة الغواصات: الأول، سقوط لائحة سكوت موريسون رئيس الوزراء الأسترالي اليميني المحافظ السابق في انتخابات مايو (أيار) الماضي، وخروجه من السلطة لصالح العمالي أنتوني ألبانيزي. والثاني، أفول نجم رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون وخروجه من «10 داوننغ ستريت» ووصول ليز تراس بديلاً عنه.
اليوم، عاد خيار كانبيرا لشراء غواصات فرنسية إلى الواجهة. فمن جهة، عادت العلاقات بينها وبين باريس إلى طبيعتها. ومن جهة ثانية، تبين للطرف الأسترالي أن الحصول على الغواصات الأميركية – البريطانية ذات الدفع النووي ليس سهل المنال في المواعيد المحددة سابقاً.
وعملياً، لن تحصل كانبيرا على غواصاتها قبل العام 2040، ما يعني أن البحرية الأسترالية ستكون في مأزق ولن تكون قادرة على تجديد أسطول غواصاتها في وقت يتزايد التصعيد في منطقة الهندي ــ الهادئ؛ بسبب ما ينظر إليه على أنه سعي صيني للتمدد وبسط النفوذ.
من هنا، فإن الحكومة الأسترالية عادت لتنظر إلى البدائل المتاحة، ومنها الخيار الفرنسي، حيث يتم تداول معلومات تفيد بأنها ترغب في شراء 4 غواصات يتم تصنيعها في أحواض «نافال غروب»، وليس بالتقاسم بينها وبين الأحواض الأسترالية، كما نص عليه الاتفاق السابق.
وحتى اليوم، المحادثات بين الطرفين تمهيدية، علماً بأن السويد عازمة على دخول ميدان المنافسة. إلا أن حظوظ باريس مرتفعة، ما سيعدّ على أنه «جائزة ترضية» لخسارتها العقد القديم.
في تعليقها على دعوة ماكروز للقيام بـ«زيارة دولة»، قالت الناطقة باسم البيت الأبيض كارين جان ــ بيار، إنها تعكس «عمق وصلابة العلاقات بين الولايات المتحدة وفرنسا، حليفها الأقدم»، في إشارة منها إلى الدور الذي لعبته القوة الفرنسية بقيادة المركيز لافاييت في مساعدة الثوار الأميركيين في التغلب على القوات الإنجليزية، في حرب التحرير الأميركية.
وأضافت جان ــ بيار أن واشنطن «تعلق أهمية كبرى على علاقاتها مع فرنسا، القائمة على تشارك القيم الديمقراطية، وعلى المصالح الاقتصادية والتعاون في مسائل الأمن والدفاع».
وكان بمستطاع الناطقة باسم البيت الأبيض أن تضيف إلى ما سبق التنسيق السياسي والدبلوماسي بين الجانبين بصدد المسائل الرئيسية التي تشغل العالم في الوقت الحاضر، كالحرب في أوكرانيا، والموقف من روسيا، والملف النووي الإيراني، وتطوير الحلف الأطلسي والبيئة، والعلاقة مع الصين، ونظرة واشنطن للاتحاد الأوروبي.
بيد أن هذا التنسيق، منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض بداية العام الماضي، شابه بعض الخلافات بدت بوضوح منذ انطلاق الحرب الروسية على أوكرانيا… ماكرون بقي مصراً على الحوار مع الرئيس بوتين، فيما كان بايدن وجونسون وغيرهما من قادة أوروبا الشرقية والبلطيق يدفعون باتجاه سياسة حازمة إزاء الرئيس الروسي. لكن باريس أدت للالتحاق، إلى حد بعيد، بالموقف الأميركي. وجاء البيان المشترك الذي صدر عقب لقاء بايدن ــ ماكرون في نيويورك، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليؤكد «وحدة الموقف» بين الطرفين، إذ أكد «دعمهما المتواصل لأوكرانيا لتدافع عن نفسها بوجه العدوان الروسي» وكذلك بالنسبة لعزمهما العمل معاً من أجل «منع إيران من الحصول على السلاح النووي»، وأيضاً «التعاون في منطقة الهندي ــ الهادئ لمواجهة التحديات التي تطرحها الصين».
ليس سراً أن ماكرون سعى لبناء علاقة خاصة مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. إلا أنه فشل في التأثير على خياراته وسياساته المتناقضة مع الخيارات الفرنسية. ومع بايدن، بدت الأمور أكثر سهولة. وباستثناء الخلاف بشأن صفقة الغواصات الأسترالية واستبعاد باريس من التحالف الثلاثي (الأميركي ــ البريطاني ــ الأسترالي) في منطقة بالغة الأهمية الاستراتيجية لباريس، فإن الأمور بين العاصمتين سارت بشكل جيد. ولا شك أن «زيارة الدولة» التي سيقوم بها ماكرون لواشنطن بداية ديسمبر ستشكل رافعة لمزيد من التنسيق والتعاون بين الجانبين.
ويبدو للرئيس الأميركي «مصلحة» في المحافظة على علاقة وثيقة مع ماكرون، في وقت يعرف الاتحاد الأوروبي هزات سياسية متلاحقة، ليس أقلها وصول اليمين المتطرف إلى السلطة في إيطاليا، وفشل المستشار الألماني، حتى اليوم، في أن يملأ المقعد الذي تركته له المستشارة أنغيلا ميركيل.

نقلا عن الشرق الاوسط

زر الذهاب إلى الأعلى