هنا اوروبا

عائلة شاب من ذوي الإعاقة تكتشف شعبيته في أوروبا بعد وفاته

"كنا تقليديين لأبعد حد. لم نشأ أن نغير نظامه اليومي".

في أحد مقاهي العاصمة النرويجية أوسلو، يصف روبرت ستين قلقه بشأن سهر ابنه الراحل طوال الليل. "وبالنظر إلى الأمر الآن، أعتقد أنه كان يتعين علينا أن نولي الألعاب الإلكترونية مزيدا من الاهتمام، إذ كان يقضي الكثير من الوقت في ممارستها".

وأضاف روبرت، البالغ من العمر 56 عاما، أن "تقصيرنا في هذا الأمر حرمنا من إدراك حقيقة الحياة التي عاشها (ابنه)".

وقف روبرت لإلقاء كلمة وداع في جنازة ابنه، ماتس، عام 2014، في إحدى الكنائس غربي أوسلو. وكان بين الحضور مجموعة لا تعرفها الأسرة أو الأصدقاء. روبرت وحده هو من تعرف عليهم في الليلة السابقة للجنازة.

وكان ماتس مقيما في شقة في قبو منزل أسرته، ونادرا ما غادرها في السنوات الأخيرة من حياته. لذا، كان من الغريب وجود أشخاص لا تعرفهم الأسرة.

والأغرب، أن ماتس نفسه لم يلتق هؤلاء الناس من قبل.

وفي المقابل، لم يعرف الحضور أنفسهم حقيقة ماتس. فهو بالنسبة لهم يُدعى إبيلن، وُلد لأسرة من النبلاء، ومتعدد العلاقات النسائية، ومحقق. عاش بعضهم بالقرب من منزل الأسرة، في حين أتى آخرون من أماكن بعيدة. لكنهم جميعا ينعون ماتس.

ولاحقا، تحدث أحدهم في الجنازة ليفاجئ الحضور بأن أُناسا من جميع أنحاء أوروبا يوقدون الشموع لأجل ماتس.

وقُدّر لماتس، الذي كان يضع على رأسه تاجا من الورق في عيد ميلاده الرابع في يوليو/تموز 1993، أن يُصبح قعيدا خلال بضع سنوات.

وعلم والدا ماتس بمرضه في مايو/أيار عام 1993. وكانوا قد لاحظوا من قبل علامات مثل سقوطه المتكرر من الأرجوحة، وعدم قدرته على صعود درج الزلاجة في الحضانة، والألم الذي شعر به في ركبتيه عند وقوفه، وعدم قدرته على الجري مثل أقرانه.

وأخبر الأطباء والدا ماتس، روبرت وترود، أن ابنهم مصاب بحالة نادرة من ضمور في العضلات، غالبا ما تصيب الصبيان. وكشفوا عن تشوه في جينات ماتس، تمنع عضلاته من النمو بطريقة طبيعية، وسينتهي الأمر إلى تدمير جسده.

ويقول روبرت إنه وزوجته اتصلا بالطبيب بعد أن خلد ماتس إلى النوم، "وكان مسموحا لنا الاتصال في أي وقت عند حاجتنا لأي معلومات. وقلت للطبيب "على الأقل لن يموت بسبب هذا المرض". فسكت الطبيب لثوانٍ ثم قال "لا. ولكن نادرا ما يعيش المرضى أكثر من 20 عاما."… لكن ماتس عاش حتى سن الخامسة والعشرين".

وظن روبرت وترود أن ابنهما لم يعش "حياة طبيعية"، وأنه مات صغيرا دون أن يترك بصمة في العالم. لكنهما كانا مخطئين.

وإذا كانت خريطتنا الجينية ترسم حدود حياتنا قبل مولدنا، فكيف يتسنى لنا اختيار الحياة التي نريدها؟

ماتس استطاع أن يجد لنفسه مخرجا، ويرسم الحياة التي أرادها.

ومع بداية الألفية، انتقلت الأسرة إلى منزل يلائم الكرسي المتحرك، في جنوب أوسلو.

وسُمح لماتس بلعب الألعاب الإلكترونية في أوقات الفسحة المدرسية، لكن الأمر لم يقلل من إحساسه بالاختلاف، إذ كان يجلس على كرسيه المتحرك، ويلازمه مرافق طوال الوقت.

وفكرت الأسرة في الأنشطة التي يمكن أن تملأ فراغ ماتس، حتى توصلوا إلى الألعاب الإلكترونية. وأعطى روبرت لنجله كلمة سر جهاز الكمبيوتر الخاص بالأسرة وهو بعمر 11 عاما.

وقال روبرت في تأبين ابنه إنه "على مدار عشر سنوات، لعب ماتس ما بين 15-20 ألف ساعة. وهو ما يزيد على ساعات العمل بدوام كامل في عشر سنوات".

لكن هذه الساعات كانت سببا في صدامات داخل الأسرة. "فعند وصول الممرضة في الساعة العاشرة مساءا، كان يتعين على ماتس أن يكون في فراشه، واعترض ماتس على ذلك، لكنه وافق على مضض".

ماتس أصبح لاعبا مولعا بالألعاب الإلكترونية، وهؤلاء لا يخلدون إلى النوم مبكرا.

وفي أوقات اللعب، كان ماتس يتحول إلى لورد إبيلن ريدمور، أو جيرومي ووكر، وكتب في مذكراته أن "جيرومي وإبيلن كانا امتدادا لشخصيتي… كانا يمثلان جوانب مختلفة منها".

وأصبح ماتس أحد أبرز شخصيات كوكب أزيروث في لعبة عالم الحروب، وهو كوكب خيالي قضى الشاب معظم وقته في منطقة "الممالك الشرقية" منه.

ويتعرف اللاعب على هذه الكوكب رويدا، بالضبط كما يتعرف على العالم الحقيقي.

وعلى كوكب أزيروث، توجد خطط للسفر، ومسطحات ومدن ستعرفها عن ظهر قلب. وستحرس نفسك في بعض المناطق، في حين ستحب التنزه في مناطق أخرى. هذا هو العالم على أزيروث، تماما كما في العالم الحقيقي.

واستطاع ماتس أن يخلق لنفسه رحلة، ويكون الكثير من الأصدقاء.

ويقول روبرت: "عندما كنت أمر أمام شقة ماتس في القبو صباحا، وأرى الستائر مغلقة، كنت أشعر بالأسى. كنت حزينا لأن عالمه كان محدودا".

وأضاف "لكن البعيدين عن عالم الألعاب الإلكترونية لا يرون الصورة كاملة… لا يدركون أن الأمر أكبر من مجرد التصويب وجمع النقاط".

وتابع روبرت: "ظننا أن الأمر يتعلق باللعب فقط، وأنها منافسة للفوز. لم نفهم لم كان مهما لماتس أن يلعب في المساء وطوال الليل. وأدركنا لأول مرة بعد وفاته. كنا دائما ما نريده أن يخلد للنوم في الحادية عشرة، مثل الناس "الطبيعيين".

وكانت الهولندية ليزيت روفرز من أصدقاء ماتس المقربين في عالم الألعاب. وحضرت الجنازة عام 2014. وجاءت في زيارة إلى النرويج، لتلتقي بصديق آخر لماتس، يُدعى كاي سيمون فريدريكسين.

وقالت: "عرفت ماتس على مدار سنوات. كان موته صدمة، أسهمت في تشكيل شخصيتي".

وكانت ليزيت تبلغ من العمر 15 عاما حين تعرفت على ماتس لأول مرة، الذي كان يبلغ من العمر 16 عاما آنذاك. أو بمعنى أدق، عندما تعرفت شخصية ليزيت "رومور"، على شخصية ماتس "إبيلن".

وتروي ليزيت أنها تعرفت على ماتس في إحدى قرى الكوكب الخيالي. وكان لقاءا عفويا، إذ خرجت شخصيتها "رومور" من بين الشجيرات وخطفت القبعة من على رأس إبيلن، شخصية ماتس، وجرت بعيدا.

ووثق ماتس هذا اللقاء على مدونته، في تدوينة بعنوان "الحب".

وكتب فيها: "في هذا العالم الآخر، لن ترى الفتاة كرسيا متحركا ولا أي شيء مختلف. ستتعرف إلى روحي وقلبي وعقلي، داخل جسد قوي ووسيم. ولحسن الحظ، تبدو كل الشخصيات في هذا العالم الافتراضي رائعة".

وقال ليزيت إن ماتس كان صديقا جيدا "ومقربا جدا في بعض الأحيان. كتبنا لبعضنا البعض عن كل شيء، لكنه لم يذكر حالته. ظننت أن حياته مثل حياتي. فمثلا، اتفقنا على كراهية المدرسة".

لكن ثمة أشياء أخرى لم يتفقا عليها، "فقد ذكر لي أنه يكره الثلج، في حين قلت إنني أحبه. وبالطبع لم أفهم أنه يكرهه بسبب الكرسي المتحرك".

كما كان والدا ليزيت قلقين بسبب الألعاب. كانا قلقين بشأن دراستها وعدم وجود حياة اجتماعية. وكان الحل هو وضع حد للألعاب الإلكترونية.

لكن ماتس لم يتخل عن صداقتهما، واستمر في التواصل معها بطرق أخرى. "حتى أنه كتب خطابا صارما لوالديّ، حاول فيه أن يشرح لهما أهمية اللعب بالنسبة لي".

وكان روبرت وترود على علم بصلة ابنهما بـ ليزيت.

ويقول روبرت: "ذكر ماتس بعض الشخصيات في اللعبة، ومن بينها رومور، لكننا لم نلق بالا للأمر. وأرسلت له رومور، أو ليزيت، هدايا في مناسبات عدة من بينها عيد ميلاده. ظننا أن ليزيت صديقته بسبب الهدايا، فلدينا دليل ملموس واعتبرناها، أما الآخرون فلم نعتبرهم أصدقاء، بل مجرد شخصيات خيالية".

وفي لعبة عالم الحروب، يمكنك اللعب بمفردك أو ضمن فريق من لاعبين آخرين. وكان ماتس أحد أفراد مجموعة تحمل اسم "ستارلايت" وتضم 30 عضوا.

ويقول روبرت إنه درس طريقة اللعب، وعلم أنه "ليس من السهل أن يصبح المرء عضوا في ستارلايت، إذ يحتاج الأمر لتوصية من أحد الأعضاء، ثم المرور بفترة اختبار تستمر لشهر أو اثنين".

وأُسست ستارلايت منذ 12 عاما، وما زالت مجموعة نشطة حتى الآن.

وكاي سيمون، أو "نوميني"، البالغ من العمر أربعين عاما هو قائد مجموعة "ستارلايت".

وفي ذكرى وفاة ماتس من كل عام، تقيم المجموعة تأبينا لمشاركة ذكرياتهم معه.

وقال كاي سيمون لأعضاء المجموعة العام الماضي، إنهم يجب أن يركزوا على الأنشطة التي تتضمن الجري والسباحة عند تأبينهم لـ لورد إبيلن.

وتابع: "كان إبيلن يحب الجري. وكان مهما بالنسبة له أن يبرز قدرته على الجري ويحكي عنها للآخرين".

ولا فرق الآن بين ماتس شخصيا، وبين شخصيته الخيالية "إبيلن" ، فهما وجهان لعملة واحدة.

في صيف 2013، حين كان ماتس يبلغ من العمر 24 عاما، سافرت الأسرة في إجازة إلى مايوركا الإسبانية، وبقي ماتس في شقته مع مساعده الشخصي.

وكان ماتس في حاجة لمساعد شخصي طوال الوقت. وتبدل المساعدون على مدار سنوات عدة، ومن بينهم عمه. ولحسن الحظ، كان بعضهم مهتما بالألعاب الإلكترونية.

وأثناء إجازة الوالدين، بدأ ماتس مدونته "متع الحياة"، وكتب تدوينة بعنوان "هروبي" ليصف فيها الحياة على أزيروث. وقال فيها: "هناك، إعاقتي غير مهمة. القيود مكسورة، ويمكنني أن أكون كما أشاء. هناك أشعر أنني طبيعي".

وشارك ماتس مدونته مع أعضاء "ستارلايت"، وهكذا تسنى لهم معرفته حالته الحقيقية.

وما زالت ليزيت تتذكر أول مرة قرأت فيها المدونة. "شعرت بالخزي. وأرقني ضميري لأني كنت أحيانا أشاكسه في اللعبة بدون مراعاة لشعوره. وفكرت إذا ما كان يتعين عليّ أن أغير من طريقة تعاملي معه. لكني قررت ألا أفعل ذلك. وهو الأمر الذي أكده في مدونته".

شخصية أخرى في اللعبة هي "شيت"… شخصية قوية وحاضرة. وفي الحقيقة، هي آن هاميل، تبلغ من العمر 65 عاما، وهي طبيبة نفسية متقاعدة في سالزبري، في المملكة المتحدة.

وأبدت إعجابها الشديد بـ "ستارلايت" كملاذ للمهمشين في العالم الحقيقي.

وقالت: "لأننا نلتقي بدون أفكار مسبقة، تعتبر "ستارلايت" ملاذا آمنا. حتى بالنسبة لمن يعتبرون أنفسهم أغراب".

وتابعت: "الألعاب الإلكترونية مساحة للقاء الآخرين وتكوين صداقات. نكتشف بعضنا البعض بدون أفكار مسبقة. هو فرصة لنعرف إن كنا نحب شخصا ما، وحينها فقط يتسنى لنا الكشف عن أعمارنا ونوعنا وإعاقاتنا أو حتى لون البشرة إن أردنا".

وقبل وفاته بستة أشهر، غاب ماتس عن اللعبة لمدة عشرة أيام.

وتقول آن إنها مدة طويلة جدا بالنسبة لماتس، "فقد كان موجودا دائما إذا أراد أحدنا اللعب أو الدردشة".

وعند عودته للعبة، علم الجميع أنه كان في المستشفى، وهنا قررت آن الإفصاح عما دار برأسها.

وكتبت في الجزء الخاص بالدردشة في اللعبة: "ماتس، عليك أن توصلنا بشخص نتمكن من الاتصال به إذا حدث لك مكروه، لنعرف بالأمر إذا لم تتمكن من إرسال رسالة بنفسك".

وانتظرت منه تقديم حل ما أو إعطاء كلمة السر الخاصة به لأحد اللاعبين في المجموعة.

لكن ماتس قال: "أنتم تطلبون ذلك لأنكم تعلمون أنني أجلس على كرسي متحرك".

فردت آن: "غير صحيح. أنت مهم للمجموعة. أنت مستمع رائع. أنت واحد ممن يرفعون روحنا المعنوية في ستارلايت".

وتأخر ماتس في الرد. وحينها علمت آن أن ماتس قد تأثر بحديثها.

ثم توفي ماتس في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2014.

مرض بشدة ودخل المستشفى. وتمكن الأطباء من الوصول بحالته إلى مرحلة الاستقرار، وقالوا إنه يمكنه العودة للمنزل. ثم طُلب من العائلة العودة بسرعة قدر الإمكان.

ويقول روبرت: "كان ماتس في آخر غرفة في ردهة الطابق الرابع. وكان الردهة طويلة جدا، وكل دقيقة كانت ثمينة".

لكنهم أتوا متأخرين.

ويظهر ماتس شاحبا في آخر صورة التقطها له روبرت، وشهره طويل ومجعد. رُسمت عيناه بدقة، وتظهر على فمه آثار قناع التنفس. بدا وكأنه نائما.

وكانت ليزيت قد رسمت له صورة قبل سنوات. ويظهر فيها إبيلن وهو يحمل رومور، ويغطي وجهه وفمه بوشاح.

ويقول روبرت: "وصلت الصورة بالبريد. وهي الآن معلقة على الحائط في المنزل".

واجتمعت الأسرة في المنزل في اليوم التالي لوفاة ماتس.

وفكر روبرت فيمن يجب أن يخبره بوفاة ماتس. ثم تذكر اللاعبون، وفكر في الطريقة التي يمكنه الوصول إليهم بها.

"وعندها فكرت في المدونة". وكان ماتس قد أعطى كلمة السر الخاصة بها لروبرت ليتابع الإحصائيات وعدد الزيارات والقراءات.

وقالت آن لوالديّ ماتس "لا يمكنك أن تعرف كم يلعب دورا في حياة ابنك إن لم تعرف أصدقاءه الإلكترونيين. يجب الاتفاق على طريقة للوصول إلى أصدقائهم الإلكترونيين حال حدوث مكروه. وإلا سيتساءلون إلى الأبد عما حدث".

وأعلن روبرت خبر الوفاة عبر المدونة. وكتب في نهاية التدوينة بريدا إلكترونيا لمن يريد التواصل.

وقال: "كتبت، وبكيت، ثم نشرت. لم أكن متأكدا إن كنت سأتلقى أي ردود. ثم وصل أول بريد إلكتروني للعزاء من أحد أفراد ستارلايت".

ثم توالت الرسائل ممن عرفوا ماتس في الحياة الافتراضية التي عاشها. "مجتمع كامل، أمة مصغرة من الناس بدأت تتكون،" على حد وصف روبرت.

وعند إعلان وفاة ماتس على مجموعة ستارلايتس، جمعوا أموالا من بعضهم البعض بحيث يتمكن الأعضاء الذين لا يملكون ما يكفي من المال السفر إلى النرويج وحضور الجنازة.

وتوجه الكثيرون إلى الجنازة، ليزيت من هولندا، وآن من المملكة المتحدة، وجانينا من فنلندا، وريكي من الدنمارك.

وتحدث كاي سيمون في الجنازة، نيابة عن أعضاء ستارلايت.

وقال: "أثناء جمعنا هنا اليوم، تشتعل شمعة من أجل ماتس في أحد الفصور الدراسية في هولندا، وأخرى في مركز اتصالات في أيرلندا، وأخرى في مكتبة في السويد. ذكراه حاضرة في مركز تجميل في فنلندا، ومكتب محلي في الدنمارك، والكثير من الأماكن في أرجاء انجلترا. في جميع أرجاء أوروبا، يتذكر الكثيرون ماتس… عددهم أكثر بكثير ممكن تمكنوا من الحضور اليوم."

وفي المدونة، كان ماتس قد كتب عن شاشة الكمبيوتر التي جلس أمامها أكثر من نص حياته، وقال "إنها ليست مجرد شاشة. إنها نافذة إلى أي مكان يريده القلب."

 

 

 

ر.خ /bbc 

زر الذهاب إلى الأعلى