مقالات رئيس التحرير

د. علي الجابري : ماذا بعد تحرير الموصل

في عام 2002 وخلال انعقاد القمة العربية في بيروت كنت قد خططت لانتاج وثائقي عن تحرير جنوب لبنان، وبعد محاولة الحصول على الموافقات الاصولية من وزارة الاعلام اللبنانية، اُخبِرت ان تنفيذ  عمل اعلامي مثل هذا يتطلب موافقة حزب الله اللبناني، وبالفعل تم تخصيص شخص من الحزب لمرافقتنا في هذه المهمة ، وهو مخول بتحديد الاماكن التي يسمح بالتصوير فيها على إمتداد الجنوب اللبناني حتى بوابة فاطمة التي خرج منها آخر جندي أسرائيلي ؟!

في الطريق بين القرى في الجنوب كانت هناك مفرزة تابعة الى الجيش اللبناني، أوقفونا وإستفسروا عن مهمتنا وطلبوا جواز سفري للتدقيق.. عندها حصلت مشادة كلامية بينهم وبين مرافقنا (الاعلامي) الذي رفض ان اقدم للمفرزة جواز سفري وقال لهم : “طالما انا معهم فعليكم ان لا تطلبوا وثائقه الرسمية لاننا قمنا بتدقيقها”؟! إعتذر الجندي اللبناني بأدب وقال لي : “مرحباً بك في بلدك الثاني” ؟!

انطلقت سيارتنا في عمق الجنوب عندها قلت لمرافقي : “لماذا كنت قاسياً على الجندي .. انه يقوم بواجبه وحسب، ومن الافضل ان نحترم القانون ونلبي طلبه” ؟ فقال لي بغضب : “ لا .. ليس من حقه ان يطلب منك وثيقة السفر لانك معنا .. نحن من دفعنا الدماء لتحرير الجنوب وليسوا هم !! وطالما نحن معك لا يحق له ان يتصرف هكذا ؟! فقلت له : “لكن هذا التصرف يخلق منكم دولة موازية ولا أظنكم تقبلون بذلك لو حدث العكس”. وهنا انتهى الحوار لانني ادركت أن لا جدوى من مواصلة حوار عقيم !!

 

تذكرت هذه الحادثة ونحن على أعتاب تحرير الموصل العراقية بالتزامن مع حادثة أخرى تمت قبل أيام وهي إطلاق سراح المختطفين القطريين في العراق .. فالموصل التي يشارك في تحريرها التحالف الدولي والقوات الامنية العراقية التي تتقدم الصفوف في المواجهة الامامية، بالاضافة الى الحشد الشعبي المكون من عشرات التنظيمات التي يحاول كل منها ان يكون له دور (ولو كان إعلامياً) في عملية تحرير مدن العراق من داعش، لكي تقول في المستقبل انها كانت سبباً في تخليص العراق من داعش ولها الحق في التصرف كسلطة تفوق سلطة الدولة، دون إحترام للدور الذي قام به الجيش والشرطة العراقية؟! تماماً كما حدث مع صاحبنا في جنوب لبنان .. 

 

لذلك فإن معضلة حقيقية تواجه العراق بعد التحرير من داعش تتمثل في تغول العديد من التنظيمات المسلحة غير الرسمية وبناء سلطة موازية للدولة التي ما زالت تسير على وهن نتيجة الخلافات السياسية التي ما زالت تعصف بالبلاد منذ عام 2003 حتى الان ؟! وخير دليل على ذلك قضية إختطاف الصيادين القطريين في العراق والذين أطلق سراحهم مؤخراً بعد مفاوضات شاقة بين ميليشيات عراقية معروفة أسستها إيران وحزب الله العراقي واللبناني مع الجانب القطري وجبهة النصرة في سوريا، والمصيبة ان الحكومة العراقية لعبت دور الوسيط او السمسار فيها ؟! حتى أثمرت عن إطلاق سراح القطريين مقابل إطلاق جبهة النصرة لمعتقلين لديها بضغط قطري ؟! وهو ما طرح تساؤلات كبيرة فيما اذا كان من حق الحكومتين التفاوض مع جهات إرهابية لاطلاق سراح معتقلين من الطرفين ؟ هل هو إعتراف ضمني بسطوة هذه المجاميع ، وتفوقها في القوة على الدولة ؟! وهل تجيز الاعراف التفاوض مع المنظمات الارهابية في كلا الاتجاهين ؟ بل وهل سيكون بمقدور الدولة ان تفرض سلطتها على تلك التنظيمات مستقبلاً ؟

 

ان تلك المؤشرات تقدم صورة سوداوية لمرحلة ما بعد تحرير الموصل ما لم تتخذ إجراءات حاسمة تُجمِع عليها جميع قوى الشعب العراقية السياسية والاجتماعية، تضمن إعادة هيبة الدولة، وإلقاء السلاح ما ان تنتهي مبرراته، وعدم إستخدامه لفرض أجندات خارجية على الشعب العراقي .. 

وما يزيد الصورة قتامة هو محاولات الزعامات الكردية حصد ثمار الانتصار في إقتطاع المزيد من الاراضي العراقية لصالح إقليم كردستان، بإعتبارها ثمناً لمشاركة قوات “البشمركة” في تحرير الموصل من داعش ؟! تمهيداً لاعلان الاستقلال الكردي عن العراق.

 

إن تحرير الموصل لا يكون كافياً ما لم تعاد سلطة الدولة وهيبتها في كل مفاصل الحياة العراقية، وتحجيم التدخلات الخارجية وتقليم أظافر القوى المسلحة غير الحكومية التي تتبع أجندات خارجية غير وطنية. لان بقائها يعني إبقاء الاسباب والارضية التي تمهد لعودة الارهاب من جديد بثوب مختلف او مسمى آخر. 

 

وقبل ذلك كله لابد من إعادة هيكلة العملية السياسية واعادة زرع الثقة بين جميع القوى السياسية واشراكها في مصير العراق وعدم الاستفراد بالقرار السياسي من قبل حزب واحد او شخص واحد كما حدث في فترة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي يسجل له التاريخ انه سلم ثلث الاراضي العراقية لتنظيم داعش الارهابي نتيجة سياسات رعناء وتخبط في الحكم وفساد مالي لم يشهد له تاريخ العالم مثيلا ؟! فهل من متعظ ؟

 

* رئيس تحرير صحيفة يورو تايمز

 

المقال منشور في بوابة العين الاخبارية

زر الذهاب إلى الأعلى