آراء

نزار العوصجي: في الليلة الظلماء يفتقد البدر

كثيراً ما نردد هذه العبارة ، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ، والتي تؤشر الى قيمة الشيئ ، أو الشخص الغائب ، في وقت نكون فيه بأمس الحاجة له ، وذلك لأن الغائب يسد تلك الثغرة بكفاءة واقتدار .

“وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر”
ذكرت ايام العصر الجاهلي في ديوان ” عنترة بن شداد ” باسم ( دهتني صروف الدهر وانتشب الغدر )

دهتْني صروفُ الدّهر وانْتَشب الغَدْرُ
ومنْ ذا الذي في الناس يصفو له الدهر

وكم طرقتني نكبة بعد نكبة
ففَرّجتُها عنِّي ومَا مسَّني ضرُّ

ولولا سناني والحسامُ وهمتي
لما ذكرتْ عبسٌ ولاَ نالها فخرُ

بَنَيْتُ لهم بيْتاً رفيعاً منَ العلى
تخرُّ له الجوْزاءُ والفرغ والغَفْرُ

وها قد رَحَلْتُ اليَوْمَ عنهمْ وأمرُنا
إلى منْ له في خلقهِ النهى والأمر

سيذْكُرني قَومي إذا الخيْلُ أقْبلت
وفي الليلة الظلماءِ يفتقدُ البدر

يعيبون لوني بالسواد جهالة
ولولا سواد الليل ما طلع الفجر

وانْ كانَ لوني أسوداً فخصائلي
بياضٌ ومن كَفيَّ يُستنزل القطْر

محوتُ بذكري في الورى ذكر من مضى
وسدتُ فلا زيدٌ يقالُ ولا عمرو

هنالك قائل اخر ” في الليلة الظلماء يفتقد البدر “
فالبيت القائل” سيذكرني قومي إذ جد جدهم … وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر “، هو من القصيدة التي أبدعها ( أبو الفراس الحمداني )، الذي ولد عام 932 م وتوفي عام 964م ، في عهد الخلافة العباسية ، وتم أسره مرتين في حياته من قبل الروم ، لم ينسى فيها حبه وشوقه لوطنه مطلقاً ، ثم خرج وتولى الحكم عاماً واحداً ليتوفاه الله بعد ذلك .

من المعروف ان أبو فراس ولد بالموصل لأسرة كريمة ، وتربى في بلاط ابن عمه سيف الدولة الحمداني ، حيث تمتع بقدر كبير من الثقافة وفنون الفروسية ، وقام بتولية منبح وحران حتى تم أسره وطال أسره مجدداً .

حين نبحث عن معنى مقولة” وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر “ نجد أن الشاعر يشبه نفسه بالبدر ، وأن الناس لا تتذكره إلا في الشدائد والمواقف الصعبة ، لأنه كان فارس في فض الحالات المستعصي ، وهذا البيت من ضمن أبيات قصيده أبو فراس الحمداني ، الرائعة ( أراك عصي الدمع )، والتي قامت بغنائها أم كلثوم ، ولحنها الملحنين ، عبده الحمولي ، والملحن رياض السنباطي .

أراك عصي الدمع ..

أراكَ عـصـيَّ الـدَّمْـعِ شـيـمَـتُـكَ الـصَّـبْـر
أمــا لِلْـهَـوى نَـهْـيٌ علـيـكَ و لا أمْــرُ ؟

بَـلــى، أنـــا مُـشـتـاقٌ وعنديَ لَـوعـةٌ
ولـكنَّ مِـثْـلي لا يُذاعُ لـــــهُ ســــــــرُّ!

إذا اللّيـلُ أَضْواني بَسَـطْـتُ يَـدَ الـهـوى
وأذْلَـلْــتُ دمْـعــاً مـــن خَـلائـقِــهِ الـكِـبْــرُ

تَكـادُ تُـضِيْءُ الـنارُ بـيـن جَـوانِحي
إذا هــي أذْكَـتْـهــا الـصَّـبـابَـةُ والـفِـكْــرُ

مُعَلِّـلَـتـي بـالـوَصْـلِ، والـمَـوتُ دونَهُ
إذا مِـتُّ ظَمْــآنـاً فـــلا نَـزَلَ الـقَـطْـرُ!

هي قصيدة من القرن العاشر الميلادي ، تبدوا كأنها تحكي عن العشق ، ولكنها تحكي قصة وبطولة أبو فراس الحمداني ، وإخلاصه لسيف الدولة الحمداني ، والذي كان يري من أبو فراس فضلا عن أنه شاعر ، أنه فارس قربته صولاته وجولاته في شمال الدولة الحمدانية شمال سوريا ، في صد هجمات الروم .

كان أبو فراس مقربا من سيف الدولة في مجلسه الذي يجمع المفكرين والشعراء وأهل العلم ، وعلى الرغم من أن أبي فلراس استطاع بشجاعته التخلص من أسر الروم مرتين ، إلا أنه وفي المرة الثالثة أرسل رسائل لسيف الدولة ، حتى يرسل للروم فدية خروجه من الأسر ، إلا أن الواشون أوقعوا بينه وبين سيف الدولة ، فلازال أبو فراس يبعث له لفك أسره وكتب الكثير من قصائد العتب والحزن ، ولكن عندما طال أسره ووصل حد يأسه من استجابة سيف الدولة له ، كتب قصيدة مطلعها ( أراك عصي الدمع شيمتك الصبر )، حيث يصف نفسه ببيان عاشق مخلص لبلاده وحاكمها .

سِرْتُ وما صَحْبي بعُزْلٍ لَدى الوَغى
ولا فَـرَســي مُـهْـــرٌ، ولا رَبُّـــهُ غُـمْـــرُ

ولـكـنْ إذا حُــمَّ القَـضـاءُ عـلى امــرئٍ
فـلـيْــسَ لَـهُ بَـــرٌّ يَـقـيــهِ، ولا بَحـــــــرُ

وقـال أُصَيْحابـي : الفِـرارُ أو الـرَّدى؟
فقـلـتُ : هـما أمرانِ ، أحْلاهُـما مُــرُّ

سَيَـذْكُـرُنـي قـومي إذا جَــدَّ جِــدُّهُــمْ
وفي اللّـيـلـةِ الظَّـلْماءِ يُـفْـتَـقَـدُ الـبَـدْرُ

فلما وقعت القصيدة في يد سيف الدولة ، استشعر فيها العاطفة الصادقة لأبي فراس الحمداني ، وتذكر مآثره وفضله في حماية الدولة التي قوضتها هجمات الروم المتكررة ، في عدم وجود أبي فراس ، وهو في الأسر ، فجهز جيشه لاستعادة حلب التي وقعت في أيدي الروم فحررها ، وأخرج جميع الأسرى في سجونهم ، بم فيهم أبو فراس الحمداني .

وكذلك قال هذا البيت الشاعر عمارة اليمني ، فيقول :

فقدناك فقدان النفوس حياتها
ولم يك فقد الأرض أعورها القطر

وأظلم جو الفضل إذ غاب بدره
وفي الليلة الظلماء يفتقد البـــدر

وكذلك الشاعر محمد جواد البغدادي ، فيقول :

وقد كنت لما أن أطالع نظمها
تطالعني من لفظه أنجم زهر

فما جن عندي الليل إلا فقدتها
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

والشاعر حسين بن علي العشماوي ، يقول :

إذا نشرت ليل الذوائب في الضحى
تألق من أقصى غدائرها فجر

فلا تنكروا إن غاب في الشعر وجهها
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر .

زر الذهاب إلى الأعلى