مقالات رئيس التحريرموضوعات رئيسية

د. علي الجابري: اغتيال الدولة.. قراءة في جريمة قتل هشام الهاشمي

في العراق ما بعد عام 2003، يبدو أن الجرائم السياسية الكبرى لا تُرتكب إلا بتغطية، والأيادي الملطخة بالدم لا تُبرّأ إلا بحماية قوية من الميليشيات المرتبطة بإيران.

هذا ما تكشفه اعترافات قاتل الشهيد هشام الهاشمي، الضابط في وزارة الداخلية والعضو في ميليشيا كتائب حزب الله.
الفيديو الذي انتشر على نطاق واسع، والذي أظهر المجرم أحمد الكناني وهو يُقِر بتلقيه أوامر القتل مباشرة من القيادي الميليشياوي والنائب البرلماني حسين مؤنس، قد لا يحمل جديدًا لمن يدرك تفاصيل إدارة العراق اليوم. لكنه يقدم دليلاً إضافيًا صادمًا على أن من يُفترض أنهم “حماة القانون” هم أنفسهم أدوات للقتل، وأن من يُفترض أنهم “ممثلو الشعب” هم من يصدرون أوامر التصفية.
اغتيال الشهيد هشام الهاشمي لم يكن مجرد جريمة ضد شخص ينتقد النظام والميليشيات في العراق. لقد كان طعنة مباشرة في قلب فكرة الدولة ذاتها. هذا الرجل، الذي أمضى سنوات في دراسة التنظيمات المتطرفة كداعش، لم يَنجُ في النهاية من تطرف الدولة الموازية: دولة الفتاوى التي تُستورد من مكتب المرشد الإيراني علي خامنئي، ودولة البنادق التي يديرها الحرس الثوري من خلال واجهات عراقية مسلحة.

لقد حُكم على الكناني بالإعدام، ثم نُقض الحكم، ليخرج بعدها حرًا طليقًا! هذه ليست قصة عدالة تأخذ مجراها الطبيعي، بل قصة قضاء يُقاد إما بالخوف أو بالولاء الأعمى!

كيف يمكن تبرئة شخص أدلى باعتراف مصوّر، واستخدم مسدسًا حكوميًا، وتم تتبع تحركاته بدقة قبل وبعد الجريمة؟ الجواب مؤلم وواضح: حين يكون القاتل من “الكتائب”، يكون الغطاء الإيراني جاهزًا، والمظلة السياسية مضمونة، وتكتفي المحاكم بالصمت المطبق.
ما حدث هو تذكير دامٍ بأن الميليشيات لم تعد تكتفي بالتحكم بالسلاح فقط، بل باتت تدير القضاء، وتصيغ قوانينها الخاصة في البرلمان، وتُخفي الأدلة في وزارات الداخلية والعدل.
يجب أن يُسأل حسين مؤنس، النائب الحالي والقيادي في كتائب حزب الله، وبشكل علني وواضح: هل أصدر فتوى القتل؟ هل نقل تعليمات الاغتيال من مكتب طهران؟ وهل لا يزال يرى في “دم الهاشمي” نصرة لمحور “المقاومة” المزعوم؟
إذا كانت الدولة عاجزة عن مساءلة شخص كهذا، فلتعلن بصراحة أن سيادتها مجمدة، وأن البرلمان بات مجرد وكيل لعقيدة الولي الفقيه، وليس صوتًا لأوجاع العراقيين ومعاناتهم.

بعد خمس سنوات من اغتيال الشهيد الهاشمي، لا يزال القاتل حرًا طليقًا، ولا يزال من أصدر الأوامر في موقع السلطة.

في هذا البلد، يتم قتل العقل أولًا، ثم تُدفن الحقيقة تحت عباءة المرجعية الطائفية، ثم يُفرج عن القاتل تحت مسمى “الإجراءات القانونية”.
هشام الهاشمي لم يكن معارضًا راديكاليًا، ولا خصمًا مسلحًا. لقد كان باحثًا جريئًا، حاول أن ينير عتمة السلاح بالمعلومة والحقيقة. لذلك كان قتله رسالة واضحة وقاسية: كل من يحاول أن يكشف الحقائق سيُصمت. وكل من يواجه الميليشيا بالكلمة الحرة، ستُطارد روحه حتى أمام باب منزله.
في الختام…
ما حدث مع الكناني ليس مجرد حالة قضائية، بل هو وثيقة سياسية دامغة على انهيار الدولة أمام ميليشيا العقيدة.

إن دم هشام الهاشمي لن يجف أبدًا ما دامت الفتاوى تُصدر من خارج الحدود، وما دام البرلمان مخترقًا من قادة فرق الموت، وما دام القتلة يتنقلون بين الوزارات والمحاكم آمنين، لأنهم ببساطة… من أصحاب القرار الحقيقيين في هذا البلد.

رئيس تحرير يورو تايمز

زر الذهاب إلى الأعلى