عبـدالله سـلمـان: طفـوليـة المعـارضـة العـراقـيـة

في خضم المشهد السياسي العراقي المتأزم تبرز المعارضة كعنصر يفترض أن يكون جادا يدفع باتجاه التغيير ويُعبر عن تطلعات الشعب وما يعانيه . لكن ما نراه على أرض الواقع هو عكس ذلك تمامًا فبدلًا من تقديم رؤى واضحة أو بدائل مسؤولة تنشغل بعض أطراف المعارضة بترويج شائعات وصياغة توقعات خيالية لا تمت بصلة للواقع وكأن السياسة ساحة لممارسة الهوايات. تصرفات لا تعكس نضجًا سياسيًا بقدر ما تُظهر سلوكًا طفوليًا يُفقدها مصداقيتها ويعمّق فجوة الثقة بينها وبين الشارع العراقي الذي ضاق ذرعًا بهكذا خطابات فارغة ووعود لا ترى النور.
لا يخفى على أحد أن العمل من اجل الديمقراطية الحقيقية لا تكتمل دون معارضة فاعلة تراقب وتنتقد وتقدم البديل الواقعي للتغيير لكنها أيضًا تتحلى بالمسؤولية وتخاطب الناس بلغة العقل والمنطق. ما يحدث في العراق اليوم هو نقيض لهذا المفهوم إذ تحولت بعض أطراف المعارضة إلى أدوات للتشويش بدل أن تكون منصات للوعي وانزلقت إلى ممارسة سلوكيات لا تليق بمشهد سياسي يُفترض أنه ناضج.
ان منصات التواصل الاجتماعي التي كان يمكن أن تكون مساحة لتنوير الرأي العام أصبحت بالنسبة للبعض مجرد ساحات لبث الإشاعات وتداول تسريبات بلا مصدر وترويج توقعات تصل أحيانًا إلى حد الخيال السياسي. كل حدث مهما كان صغيرًا يُفسَّر بمبالغة وخارج سياقه الحقيقي وكل تصريح يُحوَّر ليخدم سردية قائمة على الإثارة لا الحقيقة. الأسوأ أن هذه الممارسات لا تُظهر فقط استخفافًا بعقول الناس بل تكشف عن غياب تام لأي مشروع سياسي حقيقي لدى هذه الجهات.
وما يفاقم هذا المشهد العبثي أن كثيرًا من هذه الأصوات المعارضة لا تتحرك بدافع المصلحة الوطنية أو الرغبة في التغيير كما تدعي ، بل تُساق خلف أهداف شخصية ضيقة لا تخلو من الاطماع فيلهثون خلف شهرة شخصية سريعة أو يحاولون تثبيت أقدامهم في مشهد إعلامي مضطرب يفتح أبوابه لمن يثير الضجيج أكثر من من يطرح الحقائق.
الا أن بعض هذه الجهات باتت مكشوفة التوجه إذ تُموَّل وتُحرَّك بشكل مباشرأو غير مباشر من جهات سياسية لها مصلحة في خلق فوضى إعلامية والتشويش على الرأي العام لا سيما مع اقتراب الانتخابات أو إعادة ترتيب أوراق النفوذ داخل ما يُعرف بـ”المنطقة الخضراء” وبأسلوب يفتقر للحد الأدنى من الذكاء السياسي وكأن الهدف لم يكن التغيير الحقيقي بل مجرد حجز مقعد في قطار المصالح ولو كان الثمن وعي الناس ومستقبلهم .
وفي هذا السياق لا يمكن تجاهل تأثير المتغيرات الإقليمية خصوصًا التحولات الأخيرة في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إيران والمنطقة ككل. إذ بدت واشنطن أكثر ميلًا إلى إعادة ضبط أولوياتها وفتح قنوات جديدة أو مرنة مع بعض الخصوم التقليديين وهو ما خلق حالة من التكهنات لدى بعض الأطراف العراقية التي تقرأ السياسة كمن يقرأ الأبراج. فخرج علينا من يدّعي فجأة أنه “قريب من دوائر القرار في واشنطن” أو أنه “يمتلك معلومات خاصة عن نوايا الإدارة الأمريكية” في محاولات مكشوفة لتضخيم الذات وإيهام الجمهور بصلات لا وجود لها.
إن هذا النوع من الادعاءات الذي يتكرر مع كل استحقاق انتخابي او تصريح امريكي لم يعد مجرد عبث سياسي بل أصبح كذبًا صريحًا يمارسه البعض بلا أدنى خجل أو مسؤولية. فالولايات المتحدة التي تعيد ترتيب أوراقها في المنطقة بناءً على مصالحها الكبرى لا تبني استراتيجياتها على إشارات من نشطاء تويتر أو مقاولين سياسيين يسعون لحجز موطئ قدم بأي ثمن.
وفي خضم هذا العبث من الواجب القول وبصراحة لا تحتمل المجاملة إن على أولئك المراهقين سياسيًا الذين يحاولون خلق هالة وهمية حول أنفسهم أن يكفوا عن هذا السلوك اللا مسؤول الذي كلّف العراقيين كثيرًا من الاستقرار والثقة والفرص الضائعة. فالعراق ليس حقل تجارب لمراهقات سياسية ولا ساحة لتضخيم الذات على حساب وعي شعب تعب من الوعود الكاذبة والمشاهد المتكررة.
إن من يدّعون تمثيل الشعب وهم في الواقع لا يمثلون سوى مصالحهم عليهم أن يعرفوا حجمهم الحقيقي في الشارع ، لا ذلك الذي تصوّره لهم فقاعات الإعلام المأجور أو جمهور المصالح المؤقتة. إن كان لديهم ذرة حرص على البلد فالأولى بهم أن يتحدوا على رؤية مشتركة ويصوغوا خطابًا يعبر عن تطلعات الشعب لا أن ينشغلوا بالتزوير والتشويش والفوضى التي لا تخدم سوى رؤوس الفساد والمليشيات.
العمل السياسي ليس ساحة للمزايدات ولا مجالًا للتهريج بل مسؤولية تحتاج إلى وعي و شجاعة وموقف. وإذا لم ترتقِ المعارضة إلى هذا المستوى فإنها لن تكون سوى عبء إضافي على العراق يُضاف إلى أعباء منظومة 2003 وخرابها .
في نهاية المطاف على المواطن العراقي أن يتحلى بالوعي الكافي وألّا يُعلّق آمالًا كبيرة على من أثبتت التجربة أنهم يتصرفون بلا مسؤولية ويغرقون في خطابات طفولية لا تليق بطموحات شعبٍ عانى ما يكفي من التلاعب والإحباط. فالواقع لا يتغير بالشعارات ولا بالانفعالات بل بوعي جماعي يحقق مطالب الشعب في الخلاص من نظام المحاصصة والتوافقية .
أما القوى السياسية المعارضة فالمطلوب منها مراجعة جادة لنفسها والوقوف عند الحقيقة بدل الاستمرار في خداع الناس من أجل مكاسب آنية ضيقة لا تدوم. الوطن لا يتحرر بالخداع ولا بالمناورات بل بالصدق والشجاعة والاعتراف بالخطأ حين يقع ثم تصحيحه بإرادة جادة لا تعرف التلاعب ولا تتستر خلف الأقنعة.
العراق يستحق أفضل من هذا المشهد وأبناءه أحق بقيادة ناضجة تضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار.