آراء

د. محمد القيسي: المخططات الاميركية لاستنزاف ونهب ثروات العراق.. ارقام وحقائق (1)

الجزء الاول

لقد كثرت الاقاويل والتحليلات والتصورات التي تبحث عن مغزى الاهداف الكامنة خلف حملة الادارة الاميركية للحرب على العراق التي ادت الى احتلاله وعن اسباب اصرار هذه الادارة على فرض مشروعها الذي تعمل على تنفيذه وفقا لتصوراتها على ارض الواقع في العراق رغم انها تتناقض مع هذا الواقع وتتقاطع كليا مع اهداف الشعب العراقي وطموحاته، ناهيك عن تعارضها مع القانون الدولي والشرعية الدوليه.

ورغم اختلاف التصورات والتحليلات التي تقدمها مختلف الاطراف، الا ان الثابت لدينا نحن العراقيين بان الادارة الاميركية تسعى من وراء حربها واحتلالها للعراق الى تحقيق مصالحها الخاصة على حساب مصلحة العراق وشعبه وان تعددت الوسائل والاساليب ومهما كان نوع الاسباب والمبررات التي تتحدث عنها هذه الادارة في وسائل الاعلام التابعة لها او تلك المرتبطة بها او بالجهات المتعاونة معها لتحقيق هذه الاهداف، التي اقل ما يقال عنها انه يراد بها شرا بالعراق من خلال نهب ثروتة، بالاضافة الى السيطرة على اهم مصادر الطاقة في العالم والتحكم بها وفقا لمصالح هذه الادارة الساعية الى فرض هيمنتها على العالم و وفقا لمنطلق القوة المطلقة وحسب برامج مدروسة خطط له مسبقا ومنذ امد بعيد . لهذا سنقتصر الحديث في هذه البحث المختصر على الجانب الاقتصادي للمخططات الاميركية المستمرة ضد العراق والتي بدأت سلسلة تنفيذها منذ بداية الثمانينيات واختتمتها بهذه الحرب العدوانية الانكلوامريكية التي ادت الى احتلال العراق.

اولا ـ استهداف العراق والخسائر الاقتصادية في الحرب العراقية الايرانية

اعتبرت الامبريالية الغربية النظام الايراني الذي اتى بعد الاطاحة بالشاه في عام 1979 رافعا شعارات الثورة الاسلامية وتصديرها الى المنطقة، انه يمثل اكبر تهديد لمصالحها في هذه المنطقة الحيوية والغنية بثروة البترول، لذلك تم فتح كل القنوات والاتصالات والايحاءات والتحفيزات عبر مختلف الاطراف ومختلف الوسائل لتعزيز التوتر بين العراق وايران من اجل توريط العراق في حرب مع النظام الايراني القادم بشرور طروحاته غير المعهودة، حيث فتحت الافاق واسعة امام هذا النظام الايراني للتعبير عن عنجهيته واستفزازاته لتأخذ مداها الكامل من اجل تهيئة اجواء توتر سياسي وامني وعسكري مع العراق وصولا الى حالة الاحتراب بين الدولتين. وتبعاً لذلك، نشبت الحرب في ايلول من عام 1980 التي وضعت العراق في حالة دفاع عن الشر القادم اليه، في حين ان الامبريالية الغربية عملت بكل الوسائل لاطالة امدها واستنزاف البلدين وخصوصا العراق الذي اصبح بكل امكاناته ومقدراته الاقتصادية والبشرية ضحية لاهداف الامبريالية الغربية والانظمة العميلة لها في المنطقة. وللاسف لم يكتشف العراق ان هناك تعاونا عسكريا وثيقا قد نشأ بين “اسرائيل ” وايران وبغطاء اميركي لمواجهة العراق الا بعد ان اخذت الحرب مداها وانغمس العراق فيها بالكامل وكانت اول مؤشرات اكتشاف هذا التعاون هو فضيحة ايران ـ كونترا التي تخص تزويد ايران باسلحة اميركية كان لاسرائيل دور مهم فيها وما تلاه من تعاون تسليحي بين اسرائيل وايران. ومن الجدير بالاشارة هنا الى ان قيام القوات الايرانية خلال الحرب العراقية – الايرانية باستخدام الاسلحة الكيمياوية في مناطق شمال العراق وخصوصا منطقة حلبجة كانت قد صدرت بشأنه تعليقات رسمية عن الولايات المتحدة ترجح ان الايرانيين كانوا المسؤولين على ذلك!. و لكن دونالد رمسفيلد – وزير الدفاع الامريكي الحالي – و اعضاء اخرون في ادارة جورج بوش الحالية قد لعبوا في ذلك الوقت دورا رئيسيا في التستر على تلك الجرائم بل و كذبوا عما كان يحدث. و كل ذلك لم يمنع الادارة الاميركية، التي كانت تعمل على تسليح ايران سرا ضد العراق بشكل مباشر او غير مباشر، من تقديم قروض وتسهيلات ائتمانية ومالية كبيرة للعراق في الاعوام 1987 و 1988 و 1989 من اجل التوسع في انفاقه على مشاريع التصنيع العسكري الاخذة بالتوسع بشكل كبير. وقد شجعت على ذلك اطرافا دوليا عديدة في مقدمتها بطبيعة الحال اميركا وبريطانيا والمانيا وفرنسا وايطاليا والنمسا ببيعها المسلك التكنولوجي ”Technique & knowhow” لانتاج الاسلحة غير التقليدية ومكوناتها وباسعار خيالية للعراق. كما لم يمنع ذلك ايضا الحكومة البريطانية بزعامة تاتشر من تقديم قرض للعراق بقيمة بليون جنيه وتسهيلات ائتمانية مختلفة في تلك الفترة بالذات خدمة لنفس الاغراض.

لقد ادى طول فترة تلك الحرب بين العراق وايران الى التعثر في تنفيذ الخطط التنموية الطموحة في العراق بسبب التكاليف الباهضة للحرب وحاجة الحكومة الملحة لتغطية مستلزماتها والذي قاد الى توقفها لاحقا، حيث برزت الازمة الحقيقة الخانقة للاقتصاد العراقي عند مطلع عام 1986، الوقت الذي كانت فيه بعض من اراضيه قد احتلتها القوات الايرانية. وتزامن ذلك مع انهيار اسعار النفط بشكل حاد في ذلك العام من 40 دولاراً الى 17 دولاراً، اي اقل من النصف تقريبا، مترافقا مع انخفاض سعر الدولار الاميركي ايضا. ومع الزيادة الكبيرة في الانفاق العسكري المباشر وغير المباشر لمواجهة متطلبات ادامة عمل الالة الحربية المنشغلة في الحرب مع ايران، فان الانفاق على القطاع المدني قد انخفض بشكل كبير وحاد وانصب على تلبية المتطلبات الاساسية بادنى مستوياتها طبقا لسياسة اقتصاد الحرب التي شملت مجمل مرافق الحياة في العراق.

وقد تطلب ذلك الى التوسع في سياسة الاقتراض من الخارج او الحصول على تسهيلات ائتمانية لتغطية النفقات العسكرية والمدنية التي لم تعد الموارد العراقية المتاحة قادرة على تغطيتها بالكامل، والتي تمخض عنها بالتالي ديونا بحجم كبير على العراق. وما ان وضعت الحرب اوزارها عام 1988، حيث لم تتنهي بشكلها القانوني التام لتحديد التزامات الطرفين المتحاربين وفقا للقانون الدولي، فقد وجد العراق نفسه امام مسؤولية الايفاء بالديون المترتبه عليه بالاضافة الى اعادة اعمار ما دمرته الحرب واعادة تاهيل منشاءاته وخصوصا المنشاءات النفطية التي يعول عليها العراق في انعاش اقتصاده. وقد قدرت خسائر العراق الناجمة عن اضرار تلك الحرب بـ 120 مليار دولار حيث قصفت الطائرات الايرانية حقول النفط العراقية وتعرضت معظم المنشاءات النفطية ومرافق التصدير في جنوب العراق، في بداية الحرب ، ومعظم المدن الجنوبية والمنشاءات الصناعية والزراعية والمرافق الحيوية فيها الى تدمير كبير، بالاضافة الى عدد كبير من المدن والمنشاءات في مختلف انحاء العراق وبالاخص تلك الواقعة قرب الشريط الحدودي بين العرق وايران. هذا بالاضافة الى الخسارة الناجمة عن الانخفاض في صادراته النفطية، حيث كان العراق منتجا رئيسيا للنفط قبل الحرب، إذ كان ينتج حوالي 3.4 مليون برميل يوميا، وعند قيام الحرب توقف إنتاجه كليا لأشهر عدة ثم صار يصدر كمية قليلة عبر تركيا و عبر سورية، الذي توقف كليا عام 1982، وتوقف تصدير العراق من النفط في الجنوب من أيلول 1980 لحين بدء تشغيل الخط المار عبر السعودية في أيلول 1985 . وقد خسر العراق من جراء هذا الانخفاض الكبير في صادراته بسبب الحرب مبالغ قدرت بـ 106 بلايين دولار، في حين ان الدول النفطية في المنطقة امتلاءت خزائنها باموال عوائد تصدير النفط من خلال زيادة حصتها التصديرية تعويضا للنقص الذي حصل في صادرات العراق طيلة ثماني سنوات وفي مقدمتها الكويت والسعودية والامارات. وبعد توقف الحرب راحت تلك الدول تسجل المبالغ التي قدمتها للعراق لدعمه في الحرب مع ايران، ديونا عليه واجبة التسديد مع فوائدها وخصوصا حكومة الكويت.

وبالرغم من ان الحرب مع ايران قد انهكت اقتصاد العراق بصورة مريعة الا ان القيادة العراقية حاولت بعد توقف هذه الحرب، من خلال القيام باجراءات تدبيرية ذاتية، ان تعيد تأهيل الاقتصاد العراقي واعمار ما دمرته الحرب، الا ان ذلك لم يأتي بنتائج كبيرة على المستوى الاستراتيجي لضخامة الالتزامات المطلوبة مقابل ضعف الموارد مضافا لها الديون التي بدأت دورة استحاقات تسديدها.

لقد بلغ حجم الدين المترتب على العراق وفقا للوثائق الرسمية للدولة العراقية عام 1990، اي قبل دخول العراق الى الكويت ، بحدود 65 مليار دولار بما فيها فوائد خدمة الدين، مستثنى منها المبالغ المختلف عليها مع الكويت والسعودية والبالغة 12 و 10 مليار دولار لكلا البلدين على التوالي، وهي في الحقيقة لم تكن تشكل بكاملها ديونا بالمعنى الحقيقي، حيث كان الخلاف على جزء كبير منها اعتبر في حينه، ابان ايام الحرب ، كمنح وليست ديوناً من قبل تلك الدولتين للعراق كمساهمة منها في رد الخطر الايراني. وبعد نهاية الحرب برزت الخلافات حول تحديد شكل وطبيعة هذه المبالغ، حيث ظهر تراجعا بهذا الصدد، خصوصا من قبل الكويت التي تمسكت باعتبار كل المبالغ التي قدمتها الى العراق هي ديون عليه واجبة التسديد والاولوية، مع الاشارة الى ان جزءا هاما من مكونات هذه المبالغ هي دفوعات عينية وليست نقدية.

اما موضوع العلاقة بين العراق وايران بعد انتهاء الحرب فان العراق، وبهدف انهاء الوضع وكل السائل المعلقة بين البلدين بشكل كامل، فقد قدم الالاف من الوثائق الرسمية الى الامم المتحدة التي تثبت بصورة قاطعة ان ايران هي من ابتدأ الحرب وذلك يرتب عليها التزامات واجبة للعراق، وطلب العراق مناقشة هذه الامور المعلقة رسميا باشراف المنظمة الدولية طبقا للقانون الدولي من اجل انهاء الحالة المؤقتة بين البلدين لاتمام تسوية نهائية بين البلدين واقرار الالتزامات المتقابلة بينهما بموجب هذه التسوية القانونية والسياسية. ولكن ايران من جهة، وكذلك المنظمة الدولية من جهة اخرى، كانت تمارس المماطلة بفعل الضغط الاميركي واطراف دولية واقليمية اخرى من اجل عدم حسم هذا الموضوع وابقائه معلقا خدمة لاغراض ومصالح تهدف الى ابقاء الحالة بين العراق وايران معلقة من اجل الاضرار بمصلحة العراق ومستقبله.

وهنا لابد من ادراك الحقيقية بكل ما فيها من أسى، وهي ان اميركا واسرائيل عملتا جاهدتين من اجل تطميس العراق بهذه الحرب بشتى الوسائل والطرق وعلى اطالة امدها، وبالتعاون مع دول عربية، اللواتي جنت ارباحا كثيرة جراء ارتفاع اسعار النفط وايقاف تدفق الصادرات النفطية للبلدين المتحاربين وخصوصا العراق الذي توقفت صادراته لفترة اطول، وتركيا التي انشأت صناعات ومجمعات صناعية وتجارية لتصدير منتجاتها الرديئة للسوق العراقية، والاردن التي انعشت هذه الحرب اقتصاده وانقذته حيث كان على وشك الانهيار بعد ان خفضت كل من اميركا وبريطانيا قيمة المساعدات المالية السنوية التي كانت تقدمانها له و وجهتاه باتجاه الانفتاح على العراق المتحارب مع ايران للاستفادة باقصى ما يمكن من امكاناته الاقتصادية. وكذلك سوريا التي وقفت بكل امكاناتها مع ايران ضد العراق واغلقت انبوب تصدير النفط العراقي المارعبر اراضيها ، إضافة إلى مصر التي تخلصت من كل خزينها من الاسلحة السوفيتية ببيعها الى العراق باسعار عالية تفوق قيمتها الحقيقية في السنوات الاولى للحرب وفي ايام حكم الرئيس المصري السابق انور السادات، الذي دخل في تنفيذ الاتفاقيات المحلقة بمعاهدة السلام مع اسرائيل واعادة تسليح الجيش المصري بالسلاح الاميركي الذي كانت تغطى كلفه بشكل او باخر من قيمة الدفوعات العراقية للاسلحة التي يشتريها العراق مضطرا من مصر وتصر على استحصال اقيامها بالدفع النقدي المباشر بسبب حاجة العراق اليها بعد ان امتنعت القيادة السوفيتية السابقة بزعامة ليونييد برجنيف عن تزويد العراق باحتياجاته من السلاح والعتاد في السنتين الاوليتين من الحرب بحجة الوقوف على الحياد ، حيث تغير موقفها هذا بعد فترة من تسرب المعلومات عن فضيحة ايران ـ كونترا ، التي كشفت دور اميركا في تزويد ايران بالاسلحة. لقد كان العراق يواجه دوامة الاستزاف الخطير دون ان يكون له خيار آخر سوى الدفاع عن النفس بسبب تلك الحرب التي جرى الدفع الى نشوبها من قبل اطراف عديدة ، و لقد تم كل ذلك من اجل استنزاف ثروات العراق المادية والبشرية التي كانت ستمكنه من المضي في بناء دولة عصرية تتوافر فيها كل مستلزمات التقدم والنهوض الحضاري.

يتبع …. ترقبوا الجزء الثاني قريباً

جميع المقالات تعبر عن رأي كتابها ولا تمثل يورو تايمز

زر الذهاب إلى الأعلى