آراء

عبدالله سلمان: قراءة في القانون والفقه الدستوري.. القانون الدستوري بين الثبات والتغيير

في عام 1834، برز الفقه الدستوري كموضوع محوري في فرنسا رغم نشأته في ايطاليا قبلها ، حيث شهدت البلاد نقاشًا واسعًا حول دوره ومكانته في النظام القانوني. في ذلك العام بدأ الاعتماد على الفقه الدستوري كرسيًا دراسيًا في الجامعات الفرنسية ، ليحل تدريجيًا محل القانون الإداري، مما عكس التحولات الكبرى في الفكر القانوني والسياسي.
أصبح الفقه الدستوري حديث الساعة في خضم الجدل المستمر حول الإصلاح الدستوري وضرورته حيث تركز النقاش على العلاقة بين الفقه الدستوري كمجال قانوني متخصص ومفهوم الدستور كعقد اجتماعي يمثل الإرادة الجماعية للشعب. أثار هذا النقاش تساؤلات عميقة حول ما إذا كانت قواعد القانون الدستوري وسيلة لتعزيز الإرادة الشعبية وترسيخها، أم أنها قد تُستخدم كأداة للتأثير عليها سواء من قبل النخب المحلية أو القوى الخارجية.
تشكل هذه الأسئلة جوهر دراسة الفقه الدستوري، الذي يتراوح دوره بين كونه أداة لفهم وتطوير النظام الدستوري، وبين كونه أداة قد تُستغل لتقييد خيارات الشعوب وإعادة تشكيل هوياتها السياسية والاجتماعية.
الدستور في مفهومه الأساسي هو عقد اجتماعي بين أبناء الشعب الواحد، يمثل إرادتهم الجماعية ويحدد قواعد الحكم والحقوق والواجبات. هذا المفهوم يجعل من الدستور وثيقة حية تعكس متطلبات العصر واحتياجات المواطنين. لكن الفقه القانوني الذي يمثل تفسيرًا وتحليلًا للنصوص الدستورية يثير تساؤلات حول دوره هل هو أداة لتنفيذ إرادة الشعب أم وسيلة لتقييدها؟
في سياق احداث فرنسا عام 1834، أثيرت مخاوف من أن القانون الدستوري قد يتحول إلى قالب جامد يُفرض على الشعب، ما يعيق تطور الإرادة الشعبية. فقد كانت هناك مطالب بتغيير الدستور ليعكس التحولات الاجتماعية والسياسية في البلاد، بينما رأى البعض أن الفقه الدستوري يُستخدم كذريعة لمقاومة هذه التغييرات.
دور القوى العالمية وتأثيرها على الإرادة الشعبية
من الملاحظ تاريخيًا أن القوى العالمية المهيمنة التي تسعى للحفاظ على مصالحها قد تدخلت في شؤون الدول الأخرى بحجة حماية القانون الدستوري. هذا التدخل يأخذ أشكالًا متعددة، مثل دعم رجال قانون دستوريين يتبنون وجهات نظر تخدم هذه القوى، أو الدفع بتفسيرات معينة للنصوص الدستورية تجعلها قابلة للتأويل بما يخدم توجهات القوى المهيمنة.
على سبيل المثال، إذا اختار الشعب إدراج مادة في دستوره تدعم السيادة الوطنية وتحد من التدخل الأجنبي قد تواجه هذه المادة اعتراضات تحت دعوى أنها “لا تتفق مع المعايير الدستورية الدولية”. يتم استبدالها بنصوص مرنة تفتح الباب للتأويل مما يؤدي في النهاية إلى تقييد إرادة الشعب وتوجيهها بما يتماشى مع مصالح القوى الكبرى.
الفقه القانوني والدستوري، رغم أهميتهما، يمثلان سلاحًا ذا حدين. من جهة يوفران إطارًا لتحليل النصوص القانونية وتفسيرها بما يحقق العدالة ويضمن استقرار النظام. ومن جهة أخرى، يمكن استخدامهما لتبرير التدخلات الخارجية والسيطرة على الإرادة الشعبية.
هذا التناقض يجعل من دراسة الفقه القانوني والدستوري موضوعًا مثيرًا للجدل، لا سيما في ظل الصراع بين ضرورة التغيير لتلبية تطلعات الشعب وبين مقاومة التغيير للحفاظ على المصالح القائمة.
الفقه القانوني كما أشرنا سابقًا أداة تحليل وتفسير للنصوص القانونية لكنه في الوقت ذاته يمكن أن يصبح وسيلة للتلاعب بجوهر العقد الاجتماعي الذي يعبر عن إرادة الشعوب. هذا التوتر بين استخدام الفقه القانوني كأداة لدعم الإرادة الشعبية وبين استخدامه كوسيلة لتفكيك الأسس الاجتماعية، تجلى بشكل واضح في تجارب مختلفة، أبرزها الضجة التي أثيرت حول المادة الدستورية في مصر التي نصّت على أن الإسلام هو دين الدولة.
القضية المصرية انموذجا بين الإرادة الشعبية والتدخلات الخارجية
عقب تصويت الشعب المصري على دستور جديد الذي بدا النقاش حوله عام 2011 بعد الثورة و اقراره عام 2012، كانت المادة التي تنص على أن الإسلام دين الدولة محورًا واسعا للنقاش . ورغم أن هذه المادة تعكس إرادة غالبية الشعب وتتماشى مع القيم الثقافية والاجتماعية التي نشأ عليها المجتمع المصري، إلا أنها واجهت حملة انتقادات دولية.
ادعت هذه الحملة أن إدراج دين الدولة يتعارض مع مفهوم “مدنية الحكم”، وهي دعوى غالبًا ما تروجها منظمات مدعومة من القوى الغربية. وركزت هذه الحملة على استخدام الفقه الدستوري كأداة للتشكيك في شرعية هذه المادة على الرغم من أن دساتير * جميع الدول الغربية، مثل بريطانيا والولايات المتحدة وغيرها ، تتضمن تبعية أنظمتها للكنيسة بشقيها وتستند إلى خلفيات دينية واضحة.
ازدواجية المعايير في استخدام الفقه القانوني
ما يثير الانتباه هو التناقض الواضح في التعامل مع النصوص الدستورية بين الدول الغربية والدول الأخرى. ففي الوقت الذي يُعتبر فيه الإقرار بدين الدولة أمرًا مشروعًا في دساتير الغرب، يُرفض نفس المبدأ عند تطبيقه في دول أخرى. هذا السلوك يكشف عن ازدواجية المعايير واستخدام الفقه الدستوري كأداة لتقويض خيارات الشعوب.
في حالة مصر لم يكن الهجوم على المادة الدستورية يتعلق بجوهرها فقط بل كان محاولة لإعادة تشكيل هوية الدولة بما يتماشى مع مصالح القوى الغربية. وتم استخدام منظمات المجتمع المدني وبعض الشخصيات العامة لترويج مفاهيم بديلة تهدف إلى إضعاف الأسس الاجتماعية والدينية التي قام عليها المجتمع المصري.
مخاطر الفقه الدستوري في تقويض حرية الشعوب
تتجلى مخاطر استخدام الفقه الدستوري كأداة ضد الإرادة الشعبية في عدة نقاط:
1.التشكيك في القيم الاجتماعية: من خلال انتقاد المواد التي تعكس هوية الشعب وثقافته بحجة أنها “غير ديمقراطية” أو “لا تتماشى مع المعايير الدولية”.
2.خلق انقسامات داخلية: استخدام النصوص القانونية لتأجيج الخلافات داخل المجتمع، مما يؤدي إلى تقسيم الشعب وإضعاف وحدته.
3.تغيير الهوية الوطنية: استبدال القيم التقليدية بنصوص مرنة وقابلة للتأويل، تخدم مصالح القوى الكبرى وتتنافى مع الأسس الثقافية والاجتماعية التي نشأ عليها المجتمع.
4.إضعاف السيادة الوطنية: من خلال فرض مبادئ خارجية بحجة تحسين الحوكمة أو تحقيق معايير عالمية.
نحو فقه دستوري يعزز حرية الشعوب
لكي يحقق الفقه الدستوري دوره الحقيقي، يجب أن يكون أداة لخدمة الشعب لا للضغط عليه أو توجيهه. ويجب أن يلتزم بمبداء احترام ارادة الشعب .
تُظهر هذه القرأة أن الحفاظ على التوازن بين المرونة والثبات في القانون الدستوري مع حماية استقلالية الإرادة الشعبية هو المفتاح لضمان عدالة النظام الدستوري وفعاليته.
*العلمانية منهج فكري ام عقيدة دينية / عبدالله سلمان / زقاق الكتب للنشر والتوزيع الفصل الرابع ص 156/171

زر الذهاب إلى الأعلى