نزار العوصجي: “وحدتنا مصدر قوتنا”
من يقف و يتأمل معنى الوحدة يجد فيها الكثير من القيم و المعاني السامية الداعية للأرتقاء بالواقع ، منها الترابط و الألفة و الاعتصام و الاعتزاز و التكاتف و التآخي و التضامن و التعاون ، كل هذه القيم و المعاني الكبيرة و غيرها من المرادفات لمفهوم الوحدة ، تشكل مصدراً مهماً للقوة ، و الحصاد الحقيقي منها هو البناء و النجاح و التفوق في كافة مجالات الحياة و امكانية تجاوز صعوباتها ، و هذا ما تبحث عنه المجتمعات و الدول و الأمم و الشعوب المدركة و الواعية ..
ذلك ما يؤكد عليه المثل الشعبي القائل “الربع التعاونوا ما ذلوا” ، و التعاون هنا يعني التكاتف و الأتحاد ، حيث يضرب هذا المثل البسيط و الجميل على أهمية الوحدة و التعاون بين الأفراد ..
و قد صدق الشاعر حين قال : لولا التعاون بين الناس ما شرفت نفسٌ ولا ازدهرت أرض بعمرانِ ..
و في المقابل ، فمن غير الوحدة ، او حين نتخلى عنها ، نجد الذل و المهانة و التمزق و التشرذم و الهوان و الخوف و الضعف و التناحر و التنازع و القبلية الطائشة و التفاخر المذموم بها ، بالأضافة الى و الشقاق و النفاق و فسح المجال للأعداء في زرع الفتنة ، و قد حذر الرسول العربي الامين من غياب الهيبة و العزة نتيجة التشرذم و الانانية و التباغض فقال : (( ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم )) ..
و ما قصة أكثم بن صيفي التميمي حكيم العرب مع أولاده التي كنا نقرأها و نتعلمها أيام الدراسة عنا ببعيدة ، و لم يجيئ بها في كتب الدراسة عبثاً ، و إنما لها مغزىً و هدف ، يوم أن دعا أبناءه حين شعر باقتراب أجله و قدم لهم حزمة من العصي و طلب من كل واحد كسرها ، فلم يستطع أحد منهم كسرها ، فلما فرقها و قدمها لهم ليكسروها مرة أخرى ، فصار الأمر سهلاً لهم و استطاع كل و احد منهم كسرها ..
ثم قال لهم “يا أبنائي إن في الاتحاد قوة ، و إن اجتماعكم معًا يعجّز كل من عاداكم عن كسركم ، كما عجزتم أنتم عن كسر هذه السهام مجتمعة ، فالانقسام ضعف و الاختلاف هلاك ، و إن الإنسان كالسهم إذا اتحد مع غيره قوي و اشتد ، و لعل ضِعافاً اتحدوا أفضل من أقوياء تفرقوا ، فالواحد منكم ضعيف بمفرده قوي بأخيه”..
و كان لسان حاله يقول :
كونوا جميعاً يا بني إذا اعتــرى
خطب و لا تتفرقوا أحادًا ..
تأبى القداحُ إذا اجتمعن تكسراَ
و إذا افترقن تكسّرت أفرادا ..
من هنا فان حكمة أكثم بن صيفي التميمي تدفعنا الى اعادة النظر مراراً و تكراراً بموقفنا من وحدة الموقف و وحدة المصير ، ذلك ما يحتم علينا جميعاً ان نكون على قدر المسؤولية ، في هذا الوقت الصعب ، فاليوم نحن بأمس الحاجة إلى الوحدة و تضافر الجهود و التماسك الحقيقي الفاعل لإعلاء هذه القيمة و الخُلق في واقعنا العملي فهي الحصن المنيف ..
“و لو أن الواحد منا فقه هذه القيمة لبذل لها و في سبيلها كل شيئ ، و لعَلِمَ أن كل عمل يؤسس لبناء هذا الشأن في الواقع حتى و لو كان بسيطاً ، فإنه يستحق الاحتفاء”، ففيها من الخير و الأفراح و المقاصد و الغايات على الجميع ..
لم تخلق هذه القيم الإيجابية لترفع كشعارات في وقت معين ، و إنما هي السمات التي تمضي معنا في حركة الحياة ، لنحقق منها و من خلالها كل خير ، كما انها الطريق لتعديل سلوكياتنا أفراداً و مجتمعات حين تنحرف عن جادة الصواب و تسقط في الهاوية ، فـ “وحدتنا مصدر قوتنا” و نهضتنا و عزتنا و شموخنا ، و صدق شوقي رحمه الله حين قال :
إن التعاون قوةٌ علويةٌ
تبني الرجالَ و تبدع الأشياءَ ..
لقد تعلمنا من سفر النضال الخالد أن مسألة الوحدة تتطلب اول ما تتطلب تجرداً في النفس و نكراناً للذات ، لانها تشترط كثيراً الاغفال للنتائج العاجلة المرحلية ، كما تشترط العمل للمستقبل البعيد نسبياً ، و تشترط في نفس الوقت تفكيراً ثورياً اصيلاً ، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ..
لذا دعونا نتحد في سلوكنا لنعبر عن اصالتنا ، فالوحدة الفكرية في روحها و في نزعتها العميقة كانت دوماً تتطلب الصعب ، تتطلب الشيء العميق ، الشيئ الاصيل الذي لا يبلغ بسهولة ، و تترفع و تعف عن كل ما هو قريب و سهل ..
كما علينا ان ندرك بأن البداية غالباً ما تكون صعبة ، و غالباً ما تكون محفوفة بالأخطار ، و ان علينا واجباً مقدساً بأن نحمي هذه الخطوة التاريخية و نعني بذلك وحدة الصف و الموقف ، و ان نغذيها بكل طاقاتنا ، كلً من موقعه ، و هذا يعني ان المسؤولية الأكبر تقع بالدرجة الأساس على من هم في الصف الأول من المسيرة ..
ان النـزعة الروحية هي نزعة اخلاقية اقترنت بوعي ثوري ، و قلما يجوز التفريق بين الوعي و الخلق ، لان بينهما تفاعلا و تأثيراً متبادلاً ، فالروح الاخلاقية السليمة الصافية هي التي تترفع عن السهل و عن الشيئ الشخصي ، و الشيئ الزائل ، هي التي تساهم الى حد كبير بإيجاد الوعي الثوري ، و هي من اهم عناصر التفكير الثوري ، لان التفكير الثوري هو رؤية الحقيقة المغلفة المستترة ، رؤية الحقيقة العميقة ..
فاذا كانت ثمة أهواء و أنانيات و مصالح خاصة ، فانها تحجب عن التفكير هذه الحقيقة و تشوش التفكير ، و تمنعه من ان يصل الى الاعماق ، و العكس صحيح عندما يتوفر التفكير الجذري الثوري يستطيع ايضاً إلى حد ما ان يؤثر في الجو النفسي ، في الخلق و في الروح ، كما يستطيع ان يحررها الى حد ما من المغريات ..
ليكن شعارنا الوحدة ، فهو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة ..
جميع المقالات تعبر عن رأي كتابها ولا تمثل يورو تايمز