د. عبدالرزاق محمد الدليمي: قراءة في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط الجديد
من الامور التي ادركتها مبكرا ان وسائل الاعلام في كثير من الحالات تتجه الى صوب محدد بينما تعمل السياسة في حدب اخر…في الوقت الذي يعتقد البعض ان العالم يتجه الى الصدام النووي بين الغرب الامريكي والشرق الروسي الصيني،بسبب تداعيات الحرب الروسية الاوكرانية ،تشير الوقائع على الارض منذ في العقد الماضي ، ان البيئة الأمنية الإقليمية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تشكلت على نطاق أوسع من خلال دورة انعدام الأمن وعدم الاستقرار. وأطلق التحول الهيكلي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا العنان لمثل هذه القوى حيث تزعزع استقرار المنطقة بسبب الصراعات متعددة الأوجه ، والتي شهدت مشاركة العديد من الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية والعالمية،كما أدت المخاطر والتحديات الأمنية الناتجة عن موجة عدم الاستقرار والصراعات سما بعد جيمة احتلال العراق والفوضى في اغلب دول المنطقة إلى تغيير العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى حد كبير.
تشير القراءة بأثر رجعي إلى أن عقدين من الاضطرابات نتجت بشكل أساسي عن مطالب التحول السياسي التي لوحظت في العديد من البلدان. كما أدت التحولات الأوسع في النظام الدولي التي برزت ملامحها بوضوح بعد بداية النزاع المسلح بين روسيا وجارتها اوكرانيا إلى تسريع وتيرة واتجاه إعادة الهيكلة الإقليمية بشكل كبير. بدأ التحول في النظام الإقليمي بسبب موجة من الانتفاضات الشعبية ، والتي صورت دعائيا على انها ربيع عربي، على الرغم من أن الوعد بالتحول الديمقراطي الذي بشرت به المرحلة الأولى من الربيع العربي ولّد التفاؤل ، إلا أنه في مرحلته الثانية ، كان يُنظر إلى التحول الإقليمي متشائم على نحو متزايد ، أنتجت التكهنات الأولية للمصلحة الزعم بأرساء الديمقراطية مشاعر مختلطة حول الاتجاه المستقبلي للتحول الإقليمي، ومع ذلك ، كانت اغلب الجهود غير فاعلة لوحدها لمساعدة أجندة التحول السياسي ، وأدت المواقف المتباينة التي اتبعتها الجهات الفاعلة الدولية المختلفة إلى توقف الإصلاحات السياسية،على نحو متزايد ، كما انجرفت المنطقة سيما الدول العربية إلى دائرة من العنف كما لوحظ في ليبيا أو سوريا أو العراق ، مما خلق تحديات أمنية متصاعدة لا تعد ولا تحصى تهدد الجهات الفاعلة المحلية ، فضلاً عن إنتاج عوامل أمنية خارجية للنظام الدولي ككل، وهذا يعني بالضرورة ان هذه البيئة الأمنية الجديدة الهشة غيرت في نهاية المطاف المواقف الإقليمية وخارج الإقليمية تجاه قضية التحول السياسي ، مما أدى إلى تضييق نطاق أجندة الإصلاح.
اليوم .
اذا فكرنا بأثر رجعي في العمليات المتداخلة لإعادة تشكيل الدول والمنطقة وديناميكيات الأمن الإقليمي ، والتي اتخذت معالمها العريضة شكلًا هجينا في الوقت الحالي،بسبب ان الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والصراعات المختلفة والتدخل خارج الإقليمي قوضت وحطمت أسس النظام الإقليمي ويعد السلوك غير المتوازن وغير المنضبط لنظام ملالي طهران احد اهم اسباب الفوضى في المنطقة، ناهيك عن تداعيات كبيرة على الهويات والحدود وتوازن القوى والاصطفافات، والحروب الأهلية المطولة ، وظهور جهات فاعلة من غير الدول ، والحروب بالوكالة ، والتدخلات الخارجية إلى تقويض مظهر النظام المعياري وهي ظاهرة في المجتمعات البشرية تتمثل في وصف بعض الأفعال أو النتائج بأنها جيدة أو مرغوب فيها أو مسموح بها وغيرها بأنها سيئة … بينما تكافح العديد من دول المنطقة للحفاظ على سيادتها وسلامة أراضيها ، في حين اختارت دول أخرى إعادة تنظيم شركائها تكتيكيا لبعض الوقت ، لإبراز الضغوط على الدول القومية وحدودها الحالية .
مؤتمر كامبل بنرمان
ان قراءة ممنهجة لفهم ما حدث ولايزال يحدث تحيلنا الى المؤتمر الذي دعى اليه رئيس وزراء بريطانيا …مؤتمر كامبل بنرمان، هو مؤتمر انعقد في لندن عام 1905 واستمرت جلساته حتى 1907، بدعوة سرية من حزب المحافظين البريطانيين بهدف إلى إيجاد آلية تحافظ على تفوق ومكاسب الدول الاستعمارية إلى أطول أمد ممكن. وقدم فكرة المشروع لحزب الأحرار البريطاني الحاكم في ذلك الوقت، وضم الدول الاستعمارية في ذاك الوقت وهي: بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، إيطاليا. وفي نهاية المؤتمر خرجوا بوثيقة سرية سموها وثيقة كامبل نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل بانرمان. وهو أخطر مؤتمر حصل لتدمير الأمة العربية خاصة (الإسلامية عامة) وكان هدفه إسقاط النهضة وعدم استقرار المنطقة.
قدّم المؤتمر توصيات إلى حكومة الأحرار، بعد سقوط حكومة المحافظين عام 1905 برئاسة أرثر بلفور، برئاسة السير هنري كامبل بانرمان، لإقناع رئيس الوزراء الجديد بالعمل لتشكيل جبهة استعمارية لمواجهة التوسع الاستعماري الألماني، ولتحقيق بعض الأهداف التوسعية في آسيا وأفريقيا. وتأسست هذه اللجنة العليا، واجتمعت في لندن عام 1907، وكانت تضم ممثلين عن الدول الاستعمارية الأوروبية وهي: انكلترا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، البرتغال، بلجيكا وهولندا، إلى جانب كبار علماء التاريخ والاجتماع والاقتصاد والزراعة والجغرافيا والبترول. واستعرض المؤتمر الأخطار التي يمكن ان تنطلق من تلك المستعمرات، فاستبعد قيام مثل تلك الأخطار في كل من الهند والشرق الأقصى وأفريقيا والمحيط الأطلسي والمحيط الهادي، نظراً لانشغالها بالمشاكل الدينية والعنصرية والطائفية، وبالتالي بُعدها عن العالم المتمدّن. وأن مصدر الخطر الحقيقي على الدول الاستعمارية، إنما يكمن في المناطق العربية من الدولة العثمانية، لا سيما بعد ان أظهرت شعوبها يقظة سياسية ووعياً قومياً ضد التدخل الأجنبي والهجرة اليهودية. كما ان خطورة الشعب العربي تأتي من عوامل عدّة يملكها: وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال وتزايد السكان. ولم ينس المؤتمر أيضاً، عوامل التقدم العلمي والفني والثقافي. ورأى المؤتمر ضرورة العمل على استمرار وضع المنطقة العربية متأخرا، وعلى ايجاد التفكك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة للدول الأوروبية وخاضعة لسيطرتها. ولذا أكدوا فصل الجزء الأفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي، وضرورة إقامة (الدولة العازلة) Buffer State، عدوّة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية. وهكذا مهدوا لقيام الكيان الصهيوني ….توصلوا إلى نتيجة مفادها: (إن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار! لأنه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية وملتقى طرق العالم، وأيضا هو مهد الأديان والحضارات». والإشكالية في هذا الشريان هو أنه كما ذكر في الوثيقة: «ويعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان).
وأبرز ما جاء في توصيات المؤتمِرين في هذا المؤتمر:إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة، وعلى هذا الأساس قاموا بتقسيم دول العالم بالنسبة إليهم إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى: دول الحضارة الغربية المسيحية (دول أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا) والواجب تجاه هذه الدول هو دعم هذه الدول ماديا وتقنيا لتصل إلى مستوى تلك الدول
الفئة الثانية: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ولكن لا يوجد تصادم حضاري معها ولا تشكل تهديدا عليها (كدول أمريكا الجنوبية واليابان وكوريا وغيرها) والواجب تجاه هذه الدول هو احتواؤها وإمكانية دعمها بالقدر الذي لا يشكل تهديدا عليها وعلى تفوقها
الفئة الثالثة: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ويوجد تصادم حضاري معها وتشكل تهديدا لتفوقها (وهي بالتحديد الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام) والواجب تجاه تلك الدول هو حرمانها من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة أي اتجاه من هذه الدول لامتلاك العلوم التقنية
محاربة أي توجه وحدوي فيها:
ولتحقيق ذلك دعا المؤتمر إلى إقامة دولة في فلسطين تكون بمثابة حاجز بشري قوي وغريب ومعادي يفصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة عن القسم الآسيوي والذي يحول دون تحقيق وحدة هذه الشعوب الا وهي دولة إسرائيل واعتبار قناة السويس قوة صديقة للتدخل الأجنبي وأداة معادية لسكان المنطقة، كما دعا إلى فصل عرب آسيا عن عرب أفريقيا ليس فقط فصلاً مادياً عبر الدولة الإسرائيلية، وإنما اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، مما أبقى العرب في حالة من الضعف.
منذ بداية الالفية الجديدة تتركز المناقشات على مستقبل نظام سايكس بيكو ، الذي يمكن القول إنه وضع أسس نظام دول الشرق الأوسط الحديث في حقبة ما بعد العثمانيين. . مع مرور الذكرى المئوية لاتفاقيات سايكس بيكو ، أثبتت حدود الدولة أنها مرنة ، على الرغم من أن معنى وتكوين الدول القومية المفترضة لا يزال قيد التفاوض. ربما كان التأثير الأكبر والأطول أمداً للتحول الهيكلي على ديناميكيات الأمن الإقليمي. نظرًا لأن أصحاب المصلحة المختلفين لم يتمكنوا من تحقيق الاستقرار في المنطقة ، فقد تم إضفاء الطابع الأمني على الشؤون الدولية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. عندما فشلت الجهات الفاعلة الإقليمية في تطوير أدوات فعالة لمنع أو تخفيف أو استقرار النزاعات السياسية أو النزاعات العسكرية ، ظهرت ميزة المنطقة كنظام فرعي عرضة للتغلغل الدولي في المقدمة. في الواقع ، منذ بدايتها ، تم تدويل الأزمات في المنطقة. أشعلت الانتفاضات العربية شرارة التنافس الجيوسياسي الإقليمي والعالمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. منذ بدايتها ، تم تحطيم الهياكل الجيوستراتيجية القائمة على الانقسام المؤيد للغرب مقابل المناهض للغرب. كان هذا إلى حد كبير بسبب تردد الإدارة الأمريكية في قرار ما إذا كانت ستقف إلى جانب المحتجين أو حلفاء أمريكا الاستبداديين منذ فترة طويلة. على أي حال ، فإن الدعم الأمريكي البديهي للثورات الشعبية شجع النبضات المضادة للثورة على مستوى المنطقة بدلاً من تثبيطها. كانت مشاركة الجهات الفاعلة من خارج المنطقة ، بشكل متوازن ، بعيدة كل البعد عن البناءة ، حيث تعكس إما الحالة السيئة لآليات حل النزاعات الدولية أو تضارب المصالح الذي يشكل ردود الفعل الدولية. أدى تراجع التزام المجتمع الدولي وسياسة الاحتواء وفك الارتباط النسبي إلى تعميق الفراغ في إدارة الأمن الإقليمي. اليوم ، يُنظر إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على أنها أكثر خطورة مما كانت عليه في بداية الربيع العربي ، بسبب العديد من العوامل المزعزعة للاستقرار..واذا لم تنتبه الانظمة وتحديدا العربية الى ما يجري من حولها سيتحول الامر الى فوضى في عقر دارها وهذا ما تم تخطيطه ويتم تنفيذه والبعض مازال يعتقد انه حليف للغرب والصهاينة وهؤلاء سينجونهم مما لا يحمد عقباه!!
جميع المقالات تعبر عن رأي كتابها ولا تمثل يورو تايمز