فرنسا: المجلس الدستوري يصادق على قانون التقاعد مع تعديلات بسيطة
باريس: ميشال أبونجم
حقق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومعه الحكومة، «انتصاراً» قانونياً من خلال موافقة المجلس الدستوري على الأساسي من قانون إصلاح نظام التقاعد، ما يعدّ هزيمة للنقابات وللأحزاب الداعمة لها التي ترفض القانون وتسعى لمواصلة تحركها. وبموازاة ذلك، رفض المجلس المصادقة على طلب إجراء «استفتاء بمبادرة مشتركة» تقدمت به أحزاب اليسار والبيئويون، وكانت تعول عليه ملاذاً أخيراً لدفع ماكرون إلى تجميد القانون الجديد أو التراجع عنه.
ولم يبقَ لماكرون، حتى يصبح القانون نافذاً، سوى أن يصدره بمرسوم ينشر في الجريدة الرسمية. وأفادت مصادر رئاسية بأن ماكرون سيعمد إلى إصدار القانون الجديد في الأيام القليلة المقبلة، رغبة منه في إغلاق ملف التقاعد. يبقى أن المجلس رفض بعض بنود القانون الجديد، وعددها 6، والتي لا تؤثر على جوهر القانون، أي رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً. ورغم هذا النجاح «القانوني»، فإن ردود الفعل الأولية من على جانبي الخريطة السياسية يميناً ويساراً اعتبرت أن قرار المجلس ليست نهاية التاريخ. والقلق اليوم أن يدفع هذا القرار المواطنين إلى الشوارع مجدداً، بحيث يكون الجانب القانوني قد أغلق فيما فتح على مصراعيه الجانب السياسي.
ومنذ يوم الخميس، تحول المبنى الذي يشغله المجلس الدستوري الواقع وسط العاصمة، على بعد بضع مئات من الأمتار من دار الأوبرا، إلى قلعة حصينة حيث أحاطت به وحدات من فرقة مكافحة الشغب ونشر أفراد منها على سطح المبنى. وكان لافتاً الحضور الإعلامي الواسع المحلي والعالمي على الرصيف المقابل للمجلس لتغطية الحدث، في سابقة لم يعرفها أبداً في الماضي. واستبق مدير الشرطة في باريس الحدث، فعمد إلى إصدار قرار يمنع فيه التظاهر بمحيط المجلس حتى يوم السبت. وطيلة الأيام الأخيرة، كان المجلس المذكور المؤلف من 9 أشخاص برئاسة لوران فابيوس، رئيس الوزراء الأسبق، حديث الساعة وإليه ترنو أنظار الحكومة والنقابات والمعارضة. والسبب في ذلك أن مصير قانون تعديل نظام التقاعد الذي ترفضه النقابات مجتمعة وأحزاب اليسار والخضر، ومعها نسبة الثلثين من الفرنسيين، أصبح بين يديه. وفي محاولة لمنع إقراره والسير به، نزل ملايين الأشخاص 12 مرة إلى الشوارع منذ 19 يناير (كانون الثاني) الماضي، في احتجاجات جاءت عنيفة في بعض الأحيان من أجل إسقاطه.
وينوط الدستور بهذه الهيئة القضائية، وهي الأعلى في فرنسا، مهمة النظر في مدى مطابقة القوانين الجديدة للنصوص الدستورية. كذلك، فإن قراراتها غير قابلة للنقض أو الاستئناف، وبالتالي فإن ما يصدر عنها يتخذ حكماً صفة القانون. ويعمد أعضاؤها التسعة إلى التصويت السري على القرارات التي تصدر بالأغلبية البسيطة، ويمنع بشكل مطلق الإفصاح عما دار من مناقشات داخلها.
ويوم أمس، كان على المجلس أن يصدر قرارين وليس قراراً واحداً: الأول يتناول بالطبع قانون التقاعد، والثاني مصير اقتراحين قدمهما نواب اليسار والخضر لعرض القانون المذكور على الشعب في إطار استفتاء عام تحت اسم «استفتاء بمبادرة مشتركة». وللتذكير، فإن هذا الإجراء لم يتم العمل به أبداً حتى اليوم منذ أن أدخل إلى الدستور في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي. وفي حال أجاز المجلس إجراء الاستفتاء، فإن ذلك يعني حكماً تأخير العمل بالقانون الجديد على الأقل 9 أشهر، فيما الرئيس إيمانويل ماكرون يريده نافذاً بعد إصداره، بحيث يبدأ العمل به في سبتمبر (أيلول) المقبل أو في أي حال، قبل نهاية العام الحالي.
بيد أن النقابات التي حافظت حتى اليوم على وحدتها أكدت سلفاً أن قرار المجلس الدستوري ليس نهاية المطاف. وفيما كانت المداولات جارية في الطابق الأول من جناح المجلس القائم في مبنى «الباليه رويال» (القصر الملكي)، كانت المسيرات قد بدأت بالانطلاق فيما يعد محاولة للضغط على «الحكماء التسعة». والرأي السائد كان أن المجلس لن يصادق ولن يرفض المصادقة على القانون الجديد بكليته، بل سيطلب سحب بعض مواده ليس إلا، الأمر الذي لن يزعج الحكومة ولن يرضي المعارضة، خصوصاً أنه لن يمس قلب الإصلاح الحكومي، أي رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً. ومنذ ما قبل صدور قرار المجلس، أكد لوران بيرجيه، أمين عام الفيدرالية الديمقراطية للعمل، أن «النضال النقابي لن يتوقف» مهما كان قرار المجلس. وتتهيأ اللجنة النقابية المشتركة التي تضم ممثلين عن النقابات الـ12 لعقد اجتماع تقييمي يوم الاثنين المقبل، بعد أن قررت الخميس، أن يكون الثلاثاء المقبل يوم التعبئة الثالث عشر. لكن القرارات النقابية اللاحقة ستتأثر حكماً بما صدر عن المجلس.
وأكدت صوفي بنيت، الناطقة باسم اللجنة النقابية، أن وحدة النقابات «لن تنفجر»، وأن رد النقابات «سيكون موحداً». وحذر رئيس نقابة «الكونفدرالية الفرنسية للعمال المسيحيين»، سيريل شابانييه، من أنه «إذا لم نحصل على الأقل على استفتاء المبادرة المشتركة، فسيكون الغضب الاجتماعي شديداً جداً». وكما هو متوقع، جاءت تصريحات ممثلي الأحزاب الداعمة للحراك الشعبي داعمة للنقابات. وقالت ماتيلد بانو، رئيسة المجموعة النيابية لحزب «فرنسا المتمردة» اليساري المتشدد، إن «الناس لا يتظاهرون لأن قانون التقاعد لا يتوافق مع الدستور، بل لأنه غير عادل»، مضيفة أن «صفحة (الاحتجاجات) لن تقلب».
وكشفت مذكرة صادرة عن المخابرات الداخلية، وفق وكالة الصحافة الفرنسية، أن هناك 131 تحركاً متوقعاً بعد قرار المجلس، وقد بدأت التحركات منذ ما قبل صدور قرار المجلس. وضربت النقابات لمناصريها موعداً في ساحة القصر البلدي الواقع في قلب العاصمة، وإليه اتجهت عدة مسيرات وسط حضور أمني مكثف.
وفي محاولة من السلطات لتنفيس الاحتقان الاجتماعي، دعا الرئيس ماكرون ممثلي النقابات للقائه يوم الثلاثاء المقبل، «مهما يكن قرار المجلس الدستوري». بيد أنه نبّه مسبقاً أن الحديث لن يتناول قانون التقاعد. وقالت أوساط الرئاسة إن المطروح «سيكون بالضرورة بداية مرحلة (جديدة)، حيث سيسعى الرئيس والحكومة في الأسابيع المقبلة للحوار مع الشركاء الاجتماعيين (النقابات)، وأن أبواب الإليزيه ستبقى مفتوحة للحوار من غير شروط مسبقة».
من جانبها، أعلنت إليزابيث بورن، رئيسة الحكومة، رفع قيمة الحد الأدنى للأجور بنسبة 2 بالمائة في مسعى من السلطات لمساعدة الفئات الأكثر هشاشة لمواجهة موجة الغلاء والتضخم غير المسبوقة التي تعاني منها البلد. ويرى عدد من المراقبين أن تركيز الأنظار في الأشهر الثلاثة الأخيرة على قانون التقاعد، «أنقذ» السلطات عبر تحريف الأنظار عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تصيب الطبقات الوسطى وما دون، وأن طي ملف التقاعد سيعيدها إلى الواجهة. ويبدو أن ماكرون يريد قلب صفحة قانون التقاعد بأسرع وقت، وقد يمر ذلك بتغيير وزاري يطال رئيسة الحكومة التي ارتبط اسمها بالقانون المذكور وعدد من الوزراء. وهمّ ماكرون هو توفير انطلاقة جديدة لعهده الثاني الذي انطلق متعثراً منذ بدايته.
نقلا عن : الشرق الأوسط