إيمانويل ماكرون… الرئيس الساعي إلى «قصة حب» بين فرنسا والجزائر
باريس: ميشال أبونجم
ثمة من عاب على الرئيس الفرنسي، خلال زيارته ثلاثية الأيام إلى الجزائر، أنه أقدم عليها بسبب حاجة بلاده للغاز الجزائري، كان رد إيمانويل ماكرون قاطعا: «هذا كلام هراء». وقبله، حرصت مصادر قصر الإليزيه، بمناسبة تقديمها للزيارة، على التأكيد على أن ما يريده الرئيس الفرنسي ليس الغاز وإنما «إعادة إطلاق العلاقات الثنائية نحو آفاق جديدة والاهتمام بمسائل الحاضر والالتفات إلى المستقبل». ولكن رغم النفي الرئاسي، فإن ملف الغاز كان حاضرا بقوة في المباحثات التي أدرجها الجانب الفرنسي من زاوية العمل على «تخفيف تبعات الحرب الروسية على أوكرانيا» التي من بين نتائجها غياب نسبة كبيرة من الغاز الروسي عن البلدان الأوروبية التي من بينها فرنسا. ويوم الثلاثاء 30 أغسطس (آب) أعلنت شركة «غازبروم» الروسية، وهي الجهة المصدرة للغاز الروسي، نظيرتها الفرنسية «أنجي» أنها ستخفض وبمفعول فوري، كميات الغاز المصدرة إلى فرنسا… وكانت حجتها في ذلك أن الشركة الفرنسية «لم تحترم بنود العقد المبرم بين الطرفين» من غير إعطاء مزيد من التفاصيل. وللتذكير، فإنها الحجة نفسها التي لجأت إليها مع دول أوروبية أخرى لخفض صادراتها أو لوقفها كليا.
الزيارة الرئاسية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر بالغة الأهمية لأنها تعني أن فرنسا، كغيرها من البلدان الأوروبية المتأثرة بالإجراءات الروسية، تبحث عن بدائل للغاز الروسي وأنها تنظر إلى الغاز الجزائري كأحد البدائل. وكان لافتا أن رئيسة «أنجي» ومديرتها العامة كاترين ماكغريغور كانت من ضمن الوفد الكبير الذي رافق الرئيس ماكرون إلى الجزائر.
وحقاً، أجرت ماكغريغور مباحثات مع كبار مسؤولي شركة «صوناطراك» الجزائرية التابعة للحكومة – والتي تدير الأنشطة البترولية والغازية الجزائرية – وأن البحث تواصل بعد عودة ماكرون إلى باريس. وشكل ملف الغاز أحد المواضيع الرئيسة التي نوقشت بين الأخير ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون. وجرى تداول معلومات في العاصمة الفرنسية مفادها أن الطرفين يتجهان إلى اتفاق تقوم «صوناطراك» بموجبه بتوفير 50 في المائة إضافية من الغار الطبيعي المسال إلى فرنسا للفترة المقبلة.
حتى اليوم، كانت المشتريات الفرنسية من الغاز الجزائري تمثل 8 إلى 9 في المائة من كامل الواردات الفرنسية الإجمالية من الغاز. ولقد أصدرت وزارة النقلة البيئوية بيانا تؤكد فيه أن المفاوضات مع الجانب الجزائري «تندرج في إطار استراتيجية تنويع الواردات من الغاز التي تتبعها الحكومة». وبين الاتفاقيات الخمس التي وقعت بين الجانبين في إطار «الشراكة المتجددة»، واحدة تتناول الطاقة إذ قرر الطرفان العمل معا في موضوع الطاقة المتجددة والغاز والهيدروجين، واتفقا على إطلاق برنامج بحث وابتكار تكنولوجي لاستعادة الغازات المحترقة (غاز الشعلة) ومعالجتها، وذلك إلى جانب التعاون الطبي والعلمي والرياضة والإبداع السينمائي. وللعلم، تعد الجزائر أحد المصدرين الأساسيين للغاز إلى أوروبا وحتى اليوم كانت حصتها بحدود 11 في المائة. لكنها ما زالت بعيدة عن الحصة الروسية (47 في المائة) حتى عشية بدء الحملة العسكرية الروسية على أوكرانيا. وفي أي حال، فإنها تحولت في الأشهر الأخيرة إلى «قبلة» المسؤولين الأوروبيين. وحتى اليوم، تعد إيطاليا السباقة في هذا المجال إذ أنها عقدت اتفاقيات مع «صوناطراك» لتضمن الحصول على كامل حاجتها من الغاز الجزائري.
– قلب صفحة الخلافات
لا تخفى على أحد أهمية ملف الطاقة، لا سيما في هذه المرحلة حيث تسجل أسعار الكهرباء والغاز المنزلي والصناعي قفزات متتالية تنعكس على غلاء المعيشة والتضخم وتراجع القوة الشرائية للمواطنين، وبالأخص، للطبقات الأكثر هشاشة. والجميع يعي، في فرنسا وخارجها، التبعات الخطيرة المترتبة على تفلت الأسعار. وما زالت ماثلة في الأذهان صور العنف الذي رافق تحركات «السترات الصفراء» في العامين 2019 و2020 والتي اندلعت وقتها احتجاجاً على ارتفاع زهيد في أسعار مشتقات الطاقة من البنزين والديزل. بيد أن أهمية هذا الملف لا يجب أن تغطي على الجوانب الأساسية من الزيارة الرئاسية إلى الجزائرية وما أسفرت عنه.
كثيرة العوائق المنتشرة على درب تطبيع جدي ودائم للعلاقات عبر ضفتي المتوسط بين الدولة المستعمرة والدولة المستعمرة. وحقاً نظر إلى وصول ماكرون إلى الرئاسة ربيع العام 2017 كعامل من شأنه قلب صفحة الخلافات والأحقاد والاضطهاد التي رافقت الحقبة الاستعمارية الممتدة من العام 1830 إلى العام 1962.
قبل أن يصبح رئيساً، زار ماكرون الجزائر والتقى رئيسها (يومذاك) عبد العزيز بوتفليقة. وعلق في ذاكرة الجزائريين قوله إن الاستعمار «جريمة ضد الإنسانية». وما انتظره الجزائريون أن يقدم باسم فرنسا بعدما أصبح رئيسا «اعتذاراً» عن هذه الجرائم أو الإعراب عن «الندم» أو «طلب الصفح» عما ارتكب خلال 132 سنة من الاستعمار وخلال حرب التحرير الجزائرية. لكن هذا الاعتذار لم يأتِ أبدا لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية الفرنسية. وإضافة إلى الإرث التاريخي، فإن ماكرون ارتكب أخطاء بحق الجزائر عندما اعتبر أن السلطات الجزائرية التي وصفها بالطغمة «السياسية – العسكرية» تعيش على «ريع الذاكرة»، أي تسخر التاريخ لمصلحتها ولشرعيتها. والأسوأ من ذلك تساؤله، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أمام مجموعة من طلاب الجامعات الفرنسيين والجزائريين، عن حقيقة «وجود أمة جزائرية» قبل وصول المستعمر الفرنسي، وهو كلام رد عليه الرئيس تبون بعنف مؤكدا لماكرون، في حديث لمجلة «دير شبيغل» الألمانية، أن الأمة الجزائرية كانت موجودة قبل الاستعمار، وأن أقوال الرئيس الفرنسي «إهانة للشعب الجزائري». وقرن تبون القول بالفعل فاستدعى السفير الجزائري في باريس، وخفض التواصل بين الطرفين، ومنع الطائرات الفرنسية العسكرية من التحليق في الأجواء الجزائرية إلى غير ذلك من التدابير والإجراءات التي تعبر عن «غيظ» من ماكرون.
رغم دراميتها، فإن هذه المسألة «الشخصية» طويت. ويكفي للتدليل على ذلك النظر إلى الاحتفاء الرسمي البروتوكولي والشخصي بماكرون، الذي عانقه تبون مطولا لدى هبوطه من الطائرة، وحرصه طيلة أيام الزيارة على إبراز مؤشرات الود والاغتباط بالضيف الفرنسي… كأن يمثلا معا يدا بيد في حديثهما للصحافة وأن يكيل كل طرف للآخر المديح من غير حساب. وجاءت تصريحات تبون وماكرون لتبين أنهما نجحا في قلب صفحة التوتر بينهما. ورغم أن زيارة ماكرون لم ترق إلى «زيارة دولة» وهي الأعلى في السلم البروتوكولي، فإن الرئيس الفرنسي خصص لها ثلاثة أيام وهو المعروف عنه أن زياراته عادة لا تتعدى اليوم الواحد.
أما على المستوى العام، فإن تبون وصف الزيارة بأنها كانت «ناجحة ومتميزة»، مضيفا أنها «ساهمت في تحقيق تقارب ما كان ليحصل من غير شخصية الرئيس ماكرون». وبالنظر للمعطى الجديد الذي أفضت إليه الزيارة، أعلن تبون أن الجزائر وفرنسا «سيعملان معا في العديد من الميادين خارج فرنسا والجزائر»، وأن التقارب بينهما «سيمكنهما من الذهاب بعيدا جدا» في التعاون الذي عنوانه الجديد «الشراكة الدينامية المتجددة» المتضمنة في الإعلان المشترك الذي، من أجل توقيعه، عاد ماكرون أدراجه من مدينة وهران (غرب الجزائر) يوم السبت إلى العاصمة. وجاءت كلمات ماكرون في السياق نفسه إذ أكد أنه «لأول مرة في التاريخ اجتمعنا بالأمس مع المسؤولين الأمنيين لبلدينا حيث قررنا تعزيز التعاون في مجالات الطاقة والاقتصاد والابتكار…»… وأردف أن «العلاقات الثنائية بين الجزائر وفرنسا متينة وقوية»، داعياً إلى تعزيزها من خلال الحوار في كل المجالات، بما في ذلك «المواضيع التي منعت البلدين من التقدم».
– «خريطة الطريق» للمستقبل
يشكل «إعلان الجزائر» الذي صدر بنهاية زيارة ماكرون «خريطة طريق» سيعمل الطرفان على التقيد بمحتواها للسنوات المقبلة، والتي من المفترض بها أن تعكس الانطلاقة الجديدة التي يطمحان إليها بين بلديهما. وتتضمن «الخريطة» ميادين العمل المشترك التي أولها التنسيق السياسي عالي المستوى المتمثل بإنشاء «مجلس أعلى للتعاون» على مستوى الرئاسة في البلدين يلتئم بالمداورة بين باريس والجزائر مرتين كل عام ومهمته «تقديم التوجيهات الكبرى حول المحاور الأساسية للتعاون» بما فيها تعزيز التعاون الاستراتيجي والأمني، خصوصاً في منطقة الساحل وفي ليبيا. ويعني هذا من الناحية العملية، أن الرئيسين سيدفعان «كلما دعت الضرورة» إلى اجتماع لكبار المسؤولين العسكريين في البلدين، أكان ذلك على مستوى قيادة أركان القوات المسلحة أم أجهزة الاستخبارات الخارجية على غرار الاجتماع الذي ترأساه إبان الزيارة، والذي يعد سابقة في علاقات الطرفين منذ استقلال الجزائر.
ويبدو واضحا أن فرنسا، التي تواجه صعوبات لا بل الفشل في سياستها في منطقة الساحل ذات الأهمية الاستراتيجية لها وللجزائر، تعول على الاعتماد على الشريك الجزائري، كما في مالي على وجه الخصوص. وتجدر الإشارة إلى أن باريس اضطرت إلى سحب قوة «برخان» العسكرية من مالي بعد 13 سنة من الحضور، وفي سياق مساعدة باماكو على احتواء ومحاربة التنظيمات الإرهابية المتواصل. وعمدت قيادة الأركان الفرنسية إلى خفض عديد قواتها من 5500 مع أسلحتهم ومعداتهم والدعم الجوي واللوجيستي إلى النصف ونشر القوة المتبقية في النيجر. وما زالت باريس متمسكة بمساعدة دول الساحل الأربع (موريتانيا والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد) في محاربة التنظيمات الجهادية والإرهابية. كذلك عرضت باريس المساعدة على دول خليج غينيا وغرب أفريقيا بشكل عام وفق ما ترتئيه وبشكل مختلف عن الدور الذي كانت تلعبه في مالي. ومشكلة فرنسا أنها تواجه منافسة حادة من أربع دول على الأقل (روسيا والصين وتركيا وإسرائيل). ويضاف إليها الولايات المتحدة. إلا أن مشكلتها الرئيسية تتمثل بالدور الذي تلعبه موسكو وميليشيا «فاغنر» التي تعد ذراعها الضاربة في أفريقيا والتي كانت أحد الأسباب التي دفعت إلى انسحاب القوة الفرنسية من مالي. وبالتالي، تراهن باريس على علاقات الجزائر مع مجلس الحكم العسكري في مالي ومع النيجر والعديد من البلدان الأفريقية، وهي راغبة في التعاون معها، خاصةً أن للجزائر آلاف من الكيلومترات من الحدود المشتركة مع ليبيا والنيجر ومالي… وكلها بلدان تعاني من الإرهاب والتهريب وضعف البنى ومؤسسات الدولة.
– مداواة الذاكرة الجريحة
من الطرفين. وقال ماكرون «ما موجود وسيبقى قائما (بين البلدين) هو قصة احترام وصداقة وأجرؤ على القول قصة حب».
ولأنه يرى المستقبل في الطلاب والشباب، أكد أن 8 آلاف طالب جزائري سيفدون هذا العام وهم سينضمون إلى الثلاثين ألفا الذين يقبلون كل عام في فرنسا في الجامعات والمعاهد الفرنسية. ويضاف إلى ما سبق أن الرئيسين بحثا مطولا ملف التأشيرات للمواطنين الجزائريين، ويمس هذا الملف بالكثير من الحساسية لاعتبارات سياسية من الجانبين ولأن ماكرون أمر العام الماضي بخفض التأشيرات بنسبة النصف. وكشف ماكرون أنه تناول هذا الملف مع تبون إلى ما بعد منتصف ليل الخميس – الجمعة. والنتيجة أن باريس ستسهل التأشيرات للفنانين والرياضيين والمقاولين والسياسيين ولعائلات مزدوجي الجنسية وأنهما اتفقا كذلك على محاربة الهجرات غير الشرعية وأبدت الجزائر استعدادها لاسترداد مواطنيها الذي لا يحق لهم البقاء على الأراضي الفرنسية.
– هل يعني ما سبق أن شهر عسل جديدا قد انطلق بين الطرفين؟
يبدو التزام جانب الحذر ضروريا نظرا للخيبات السابقة ولحساسية العلاقات بين الطرفين. ويكفي أن يصدر تصريح جاف من هذا الجانب أو ذاك حتى تتلبد الأجواء وتتراجع العلاقات. صحيح أن الطرفين بحاجة لبعضهما البعض اقتصاديا وأمنيا واستراتيجيا وسياسيا، لكن يتعين أخذ الواقع السياسي الداخلي لكل طرف وللضغوط التي ستحصل من طرف المتشددين أو الذين يعتبرون أنفسهم متضررين من التفاهم بين العاصمتين.
– زيارات الرؤساء الفرنسيين الرسمية إلى الجزائر
> كان فاليري جيسكار ديستان أول رئيس فرنسي يزور الجزائر في العام 1975، أي بعد 13 سنة على حصول الجزائر على استقلالها وآخرهم ماكرون. وما بين الاثنين زار جميع الرؤساء الفرنسيين الجزائر رسمياً: فرنسوا ميتران أواخر العام 1981، وجاك شيراك في العام 2003، ونيكولا ساركوزي في العام 2007 وفرنسوا هولاند بنهاية العام 2012.
– أرقام الاقتصاد والتجارة والاستثمارات
> أفادت وثائق الجمارك الفرنسية أن المبادلات التجارية بين فرنسا والجزائر، وفق أرقام العام 2020، بلغت 6.9 مليار يورو. وتحتل فرنسا المرتبة الثانية كجهة مصدرة للجزائر بحصة سوقية نسبتها 10.6 في المائة، بعد الصين (16.8 في المائة). كذلك فإن فرنسا هي الزبون الثاني للجزائر بعد إيطاليا إذ أنها تستوعب 13.3 في المائة من مجمل الصادرات الجزائرية التي تتشكل أساسا من المحروقات (غاز وبترول) بنسبة 91 في المائة. أما واردات الجزائر فتتركز على الصادرات الغذائية والأدوية والسيارات وقطع الغيار والكماليات. وتمثل مشتريات الجزائر من فرنسا 13.3 في المائة من مجمل مشترياتها. ولكن تبين الإحصائيات الرسمية منذ العام 2013 وحتى العام 2020 تراجع حصة فرنسا تصديرا واستيرادا. ويعد العام 2020 الأسوأ بين الأعوام الثمانية.
أما بالنسبة للاستثمارات الفرنسية المباشرة في الاقتصاد الجزائري، فقد بلغ مجموعها في العام 2020 ما يساوي 2.4 مليار يورو بحيث تحتل فرنسا المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة وإيطاليا. وتتركز هذه الاستثمارات بشكل خاص في القطاع المالي (البنوك والتأمين بنسبة 36 في المائة) تليها الصناعات (السيارات والأدوية والأغذية والكيماويات بنسبة 29 في المائة) والتعدين (معادن ونفط بنسبة 23 في المائة).
الشرق الأوسط