د. عـلـي الجـابـري: المـرجـع الشيعـي كـاظـم الحـائـري.. أعتـزال أم عـزل، أم أدهـى مـن ذلـك؟
أعلن المرجع الشيعي كاظـم الحائـري، الذي يعد من ابرز فقهاء “العنف المقدس لدى الشيعة”، أعتزال العمل كمرجع ديني لديه عدد كبير جداً من المقلدين الذين تحولوا الى تقليده بعد إعدام المرجع الشيعي محمد باقر الصدر واغتيال السيد محمد محمد صادق الصدر والد زعيم التيار الصدري الحالي مقتدى الصدر.
الحائـري قال في بيان رسمي انه قرر عدم الاستمرار في التصدي لهذه المسؤولية، وإسقاط جميع الوكالات والاذونات الصادرة من قبله او من قبل مكاتبه ، وعدم استلام أية حقوق شرعية من قبل وكلائه وممثليه؟!
وفي البيان نفسه كتب الحائـري وصية يمكن أن نستشف الكثير من المدلولات والمضامين من خلالها ونورد أهمها قبل ان نفسّر توقـيـتـها ودلالاتهـا:
- أولاً أوصى جميع المؤمنين إطاعة المرشد الايراني علي خامنئي بإعتباره (الاجدر والاكفا على قيادة الامة وادارة الصراع مع قوى الظلم والاستكبار في هذه الظروف)!
- يوصي العراقيين بالوحدة وتحرير العراق من أي إحتلال وأي تواجد لقوات امنية او عسكرية وخصوصاً القوات الامريكية، التي اعتبر وجودها من “أكبر المحرمات”.
- يطعن بشكل واضح وصريح بالسيدين مقتدى الصدر وابن عمه جعفر الصدر بقوله “على أبناء الشهيدين الصدرين أن يعرفوا ان حب الشهيدين لا يكفي ما لم يقترن بالايمان بمنهجهما، ولا يكفي مجرد الادعاء أو الانتساب”، ويتهمهما صراحة بقوله “من يسعى لتفريق ابناء الشعب بإسم الشهيدين الصدرين، او يتصدى للقيادة باسمهما، وهو فاقد للاجتهاد او لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعية فهو في الحقيقة ليس صدرياً مهما ادعى أو انتسب”!.
- يوصي بإبقاء الحشد الشعبي “كقوة مستقلة غير مدمجة في باقي القوى العراقية المسلحة، بإعتباره “الحصن الحصين واليد الضاربة والقوة القاهرة للمتربصين بأمن البلاد” كما يدعي!
- كما أوصى بإبعاد “البعثيين والمجرمين والمفسدين والعملاء عن المناصب والمسؤوليات في البلاد، وعدم تمكينهم بأي شكل من الاشكال.
الى هنا تنتهي وصايا الحـائـري في بيان اعتزاله ، ولكي نفهم أبعاد واسباب ومغزى التوقيت لابد من مناقشة الكثير من الحيثيات التي ترتبط بشخصيته ومكان وجوده ودوره الخفي في السياسة العراقية وتأثيـره على الاحزاب الشيعية العراقية.
مـن هـو الحـائــري؟
الحائري مرجع شيعي ايراني، مولود في مدينة كربلاء العراقية، عام 1938 ومقيم حالياً في مدينة قم الايرانية، وكان من تلاميذ المرجع الشيعي السيد محمد باقر الصدر، وبعد اعدام الصدر رجع اليه الكثير من الاتباع الصدريين في التقليد وفي ادارة شؤونهم السياسية، وأسس حوزة علمية باللغة العربية في قم بعد هجرته الى إيران ، كما وأسس حوزة علمية في العراق بعد غزو العراق مباشرة عام 2003. والحائري لديه أبن قُـتِـل في الحرب العراقية الايرانية عندما كان يقاتل في صفوف الجيش الايراني!
كان الحائري من اوائل المنتمين الى حزب الدعوة وتم اختياره فقيهاً للحزب ، الا انه ترك الدعوة لاحقاً
أبرز فتــاواه
أصدر الحائري عدة فتاوى سياسية يمكن ان تَـقـرأ من خلالها توجهاته السياسية والفكرية ابرزها:
- فتوى (جهادية) ضد حزب البعث الحاكم في العراق أجاز فيها قتل البعثيين صراحة، واصدر كتاباً بعنوان “دليل المجاهد” الذي اباح فيه تنفيذ العمليات الارهابية بما فيها استخدام الاحزمة الناسفة!
- فتوى (جهادية) أصدرها من اجل النظام السوري ، واعتبر ان كل من يُقتل دفاعاً عن النظام السوري، فهو شهيد ، لانه دفاع عن ما أسماها “بيضة الاسلام”.
- فتوى (جهادية) للقتال ضد تنظيم القاعدة والنصرة وداعش ، وقال ان كل من يقتل في مواجهة هذه التنظيمات الارهابية فهو شهيد.
- فتوى (جهادية) اصدرها لشيعة البحرين يحرضهم فيها على التصدي للحكومة البحرينية.!
- فتوى حرّم فيها التحالف الثلاثي بين التيار الصدري والقوى السنية والكردية (تحالف وطن) الذي شكّل الكتلة الاكبر في البرلمان بعد الانتخابات الاخيرة قبيل انسحاب التيار الصدري من البرلمان.
دلـيـل المجـاهـد
ربما يعد كتاب “دليل المجاهد” الذي كتبه الحـائـري من أخطـر الفتـاوى التي كانـت تبيـح صراحة قتل كل من يتعاون مع النظام العراقي السابق، حتى لو كان شرطيـاً او جنديـاً او موظفـاً في مؤسسات الدولـة العراقيـة، بل تعدى ذلك الى اهدار دم الاسرى العراقيين في الحرب العراقية الايرانية.
لكن الاخطر والاكثر عنفاً في كل التاريخ الشيعي ، هو فتواه بجواز العمليات الانتحارية التي “تخدم الاسلام” كما يدعي، وكانت موجهة ايضا ضد النظام العراقي السابق.
وفي كتابه “الفتوى المنتخبة (ص١٧٥) في المسألة (610) يجيب على سؤال : هل يجوز الانتحار بالحزام الناسف؟ فيقول “اذا كان الانتحار سبباً لعمل جهادي مهم يهون دونه قتل النفس جاز ذلك”!
الحـائـري ومقتـدى الصـدر
لكون الحائري كان وريثاً لمرجعية محمد باقر الصدر، لجاً زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الى تقليده، وكانت لديه وكالة شرعية من الحائري، الا ان الخلاف تعمق بينهما بسبب دعم الحائري لرئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي وحزب الدعوة، ورفضه سحب الثقة عنه ، ثم كان الحائري رافضاً لخطوة الصدر بمقاومة القوات الامريكية، وهو ما ادى الى سحب الوكالة الشرعية عن الصدر وحصلت القطيعة بينهما. وهذه القطيعة حررت مقتدى الصدر من الارتباط بأي مرجع شيعي، وبات يطرح نفسه زعيماً دينياً وسياسياً يستحوذ على أرث والده وعمه من الأنصار الذين التفوا حوله، وابتعدوا عن الحائري الذي يعد مرجعهم الديني! وبالتزامن مع ذلك، أستفاد الصدر كثيراً من قرار المرجع الشيعي الاعلى السيد علي السيستاني بالابتعاد عن القوى السياسية الاسلاموية الشيعية ، ورفع غطاء الدعم لها جميعاً، بعد ان أسهم بشكل مباشر في توحيد صفوفهم بعد الاحتلال ودفعهم ليكونوا القوة الابرز سياسياً في العراق. وهي خطوة عبّـر فيها السيستاني عن خيبة أمله بجميع السياسيين الشيعة الذين تسابقوا على الفساد والولاء لمرجعية المرشد الايراني علي خامنئي.
تأثيـر الحائـري وتوقيـت الانسحـاب
لم يعد الحائري مؤثراً في الساحة العراقية، بعد ان توزع ولاء الاغلبية الشيعية العراقية بين مرجعية السيستاني والولاء لمقتدى الصدر وبين الولاء المطلق للمرشد الايراني علي خامنئي، وخاصة من قبل عناصر الميليشيات المسلحة التي شكلها قاسم سليماني في العراق، إلا ان الحائري أقتصر دوره على دعم الاحزاب الشيعية الموالية لنظام طهران، في مواجهة مقتدى الصدر وحلفائه من السنة والكرد، واختتمها بفتواه المثيرة للجدل، التي حرّم فيها التحالف الثلاثي بين الصدر وبرزاني والحلبوسي (تحالف انقاذ وطن)، بذريعة انه يدعم المشروع الصهيوني الامريكي في المنطقة، ويروّج للتطبيع مع اسرائيل! لكنه صمت بعد انسحاب التيار الصدري من البرلمان، وتحول الاطار التنسيقي الموالي لإيران الى الكتلة الاكبر التي بدأت الحوارات مع الكرد والسنة الذين سبق ان حرم التحالف معهم، لان الحليف هذه المرة هو الاطار القريب من نظام خامنئي! ولم يعد يتحدث عن المؤامرات الخارجية الامريكية الصهيونية، ولم يعد هناك كلام عن “التطبيعيين”!
وأختتم الحائري حياته الدينية والمرجعية بإعلان الانسحاب من المرجعية واغلاق مكاتبه كلها، وقرر التوقف عن الحصول على الحقوق الشرعية المتمثلة بالخمس والزكاة من قبل مقلديه، والتي تقدر بمليارات الدولارات ، ولم يسبق لأي مرجع ديني شيعي أن تنازل عن حقوقه الشرعية في حياته حتى الموت، حتى في حالات المرض الشديد وكِبَر السن! فما الذي حصل لينسحب الحائري في هذا التوقيت؟
سينـاريـوهات الانسحـاب
- السيناريو الاول : (الاعتزال) وهو السيناريو المعلن، انه جاء بسبب المرض وكبر السن، وهو أضعف السيناريوهات قبولاً.. وكما ذكرت سابقاً، انه سابقة لم تحدث مع جميع المراجع الشيعة، ولا يوجد مبرر منطقي يدفعه لأغلاق جميع مكاتبه، والتنازل عن الحقوق المالية المهولة التي تصله سنوياً!
- السيناريو الثاني: (العـزل) وهو الاكثر إحتمالاً ، لغرض دفع العراقيين الشيعة الى التوحد خلف مرجعية المرشد الايراني علي خامنئي، وبالتالي فإنه محاولة لإضعاف الصدر من جهة ، وإضعاف مرجعية السيد السيستاني التي تخلت عن دعم الاحزاب والميليشيات الشيعية، التي هي بأمس الحاجة اليوم الى دعم مرجعي يعيد اليها نفوذها المهدد نتيجة الخلاف مع التيار الصدري! وما يدلل على هذه الفكرة ، ويرجح هذا السيناريو، هو ما جاء في بيان الاعتزال، حيث أوصى أتباعه بإتباع مرجعية خامنئي بإعتباره (قائد الشيعة) ، وتغاضى عن ذكر أي دور الى المرجع الشيعي الأعلى السيد على السيستاني، بل كأنه يدعو ضمنياً الى ترك مرجعية السيستاني وتقليد خامنئي ومبايعته قائداً أوحداً لشيعة العالم! وكل ما ورد سلفاً يثير التساؤلات عن طريقة كتابة هذا البيان، وفحواه، وتوقيته، ويثير شبهة تشي بأن هذا البيان كتب من قبل المقربين من خامنئي نفسه ، وان الحائري ، الرجل المقيم في ايران، مغلوب على أمره ، ولا يملك سوى السمع والطاعة، وتنفيذ اوامر خامنئي، لانه يعيش تحت رحمته أساساً، والا فإن مصيره يكون كمصير رجال الدين الذين يخالفون بعض توجهات خامنئي، وقد يكون الحيدري آخرهم!
- السيناريو الثالث: لا يخرج بعيداً عن ما جاء في السيناريو الثاني، لكنه يقترب أكثر من دعم سيناريوهات الحرب الشيعية الشيعية التي تدق طبولها بعض القوى الشيعية في الاطار التنسيقي مدعومة بالميليشيات والحشد الشعبي، وعلى رأسهم نوري المالكي، والتي تحاول فرض السيطرة على الحكم بالقوة، وعدم السماح للصدر وغيره عزل قوى الفساد والسلاح الشيعية عن الحكم حتى وإن خسرت الانتخابات، وهذا السيناريو يهدف في الاساس الى إضعاف الصدر ، والتأثير على مقلدي الصدرين الذين تحولوا لتقليد الحائري بعد مقتلهما، وإعطاء انطباع أن الشارع الشيعي الموالي للمرجعيات الدينية يتبرأ من مقتدى الصدر وابن عمه جعفر محمد باقر الصدر ، بإعتبارهما يعملان على شق وحدة الشيعة، وهو ما ذكره صراحة الحائري في بيانه، حيث قال انهما لا يسيران على خطى الصدرين ولا يحق لهما إدعاء النسب لهما، وهو تحول خطير في الخطاب يشي بأن هناك قرار ما بتصفية (الصدرين الابنين) ما لم يتخليا عن دعواتهم الاصلاحية ويعودان تحت خيمة خامنئي والقوى الشيعية! وربما ما يعزز هذا السيناريو، هو فتواه في البيان ذاته بدعم الحشد الشعبي بإعتباره (الحصن الحصين واليد الضاربة والقوة القاهرة لاعداء حلفاء خامنئي في العراق)، ووصيته بأن لا يدمج مع باقي صنوف القوات المسلحة العراقية! وهذا التعبير هو دعم اضافي منه لميليشيات خامنئي في العراق المنخرطة في الحشد الشعبي، والتي توالي خامنئي وتعتبره مرجعها ومرشدها.
- وفي الخـلاصـة، فأن السيناريوهات الثلاث تقود الى نتيجة واحدة، تصب في مصلحة دعم نفوذ نظام خامنئي في العراق، وتعطي دفعة للاحزاب الشيعية في الاطار التنسيقي، وتنعش قوى السلاح المنفلت الموالية لايران في العراق، وتحاول ان تعطيها زخماً شرعياً وجماهيرياً من قبل الموالين، وهي في الوقت نفسه تحاول أن توجه ضربة لنفوذ زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر ، وتحاول ان تقطع الطريق على مشروعه، وتجبره على، أما التراجع والتحالف مع القوى الشيعية، أو المواجهة مع قوى السلاح الشيعية الموالية لنظام خامنئي التي ستحصل على دعم صريح من قبل المرشد الاعلى الايراني لانهاء نفوذ الصدر قريباً ما لم يتراجع!
رئيس تحرير صحيفة يورو تايمز السويدية