منوعات

عمدة باريس “آن هيدالغو.”.. تحدي تحويل «عاصمة النور» إلى «خضراء»

بعد فوزها الكاسح في «معركة باريس»، يوم الأحد الماضي، وقفت آن هيدالغو بين أنصارها، وألقت كلمة تقليدية لتشكر كل من ساهم في فوز لوائحها الواضح للمرة الثانية، ولتؤكد للباريسيين أنها ستكون للسنوات الست المقبلة في خدمتهم من أجل أن تجعل العاصمة الفرنسية مجدداً «عاصمة النور»، ولكن هذه المرة «خضراء»… أي أن تتبع سياسة بيئوية تبعد التلوث وتخفف من أزمات السير الحادة وتضاعف الممرات الخاصة بالدراجات الهوائية، وتشدد على النظافة والأمن. وللعلم، كل هذه القضايا تدخل في إطار الاهتمامات اليومية للمواطنين الباريسيين الذين يبلغ عددهم 2.14 مليون نسمة.

 

تجلت لحظة التأثر الواضحة في كلمة آن هيدالغو، عندما جاءت على ذكر والديها وبقولها إنهما «كانا ليفخرا» بما حققته من انتصار ليس فقط في بلدية باريس، ولكن على المستوى الوطني في فرنسا بأسرها.
تأخذ هذه العبارة كامل معناها إذا ما وُضعت في إطار مسيرة هيدالغو الاستثنائية. ذلك أن المرأة التي ستتربّع على «عرش» العاصمة الفرنسية لست سنوات إضافية ما كان مقدّراً لها أن تصل إلى هذا المنصب. إلا أن ما يسمى في فرنسا «المصعد الاجتماعي» يعني، من الناحية النظرية، أن كل الأبواب والمناصب مفتوحة أمام أي فرنسي يتمتع بالمواهب الضرورية بغض النظر عن بيئته وأصله ومستوى عائلته الاجتماعي والاقتصادي ومحيطه الثقافي. وبالطبع، كثيرون ينتقدون هذه النظرية ويبرزون الفوارق الفاضحة بين ما هو مبدئي، حيث المساواة كاملة بغض النظر عن الجنس أو اللون أو البيئة… وما هو موجود على أرض الواقع. ولكن، إذا ما نُحّي هذا الجدل جانباً، فإن آن هيدالغو تُعدُّ أفضل تجسيد له.
بطاقة هوية
آن هيدالغو، واسمها الكامل آنا ماريا هيدالغو آلو، ابنة عائلة إسبانية متواضعة. ولدت في مدينة سان فرناندو الواقعة في أقصى الجنوب الإسباني عام 1959 وانتقلت مع عائلتها إلى فرنسا في عام 1962، وهي لا تزال في سن الرابعة من عمرها. والدها كان عاملاً كهربائياً، وأمها خياطة.
ولقد حصلت هيدالغو على الجنسية الفرنسية وهي ابنة الـ14 ربيعاً. إلا أنها في عام 2003، استعادت جنسيتها الإسبانية. وهي اليوم مزدوجة الجنسية، الأمر الذي يتيحه الدستور الفرنسي. إبّان دراساتها الجامعية انتمت باكراً إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي، في عام 1994. وفي تلك الحقبة، كان الحزب يهيمن على الحياة السياسية في فرنسا، مع وصول فرنسوا ميتران في عام 1981 إلى رئاسة الجمهورية، حيث بقي في قصر الإليزيه طيلة 14 سنة، ثم إبان ترؤّس ليونيل جوسبان حكومة اليسار أثناء ولاية جاك شيراك الأولى (1995 – 2002).
في تلك الفترة برزت «كوادر» يسارية كثيرة عملت في الوزارات والرئاسات الثلاث (الجمهورية والحكومة والبرلمان)، وفي المرافق الإدارية التي كانت محرومة منها تحت حكم اليمين، الذي سيطر على مفاصل الحياة السياسية والإدارية والاقتصادية منذ تأسيس «الجمهورية الخامسة» على يدي الجنرال شارل ديغول في خمسينات القرن الماضي. وكانت آن هيدالغو من بين هذه «الكوادر»، حيث تنقلت في عدة وزارات مستشارة هنا وملحقة هناك. وبفضل قربها من أمين عام الحزب الاشتراكي إبان ترؤس جوسبان للوزارة وما بعدها، عُبّدت الطريق أمامها، مثلما عُبّدت بوجه إيمانويل فالس الإسباني الآخر المولود في مدينة برشلونة، الذي احتل في فرنسا منصب وزارة الداخلية قبل أن يعينه الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولند رئيساً للحكومة. وللعلم، أراد فالس، قبل سنتين، العودة إلى جذوره الكاتالونية فترشح لرئاسة بلدية برشلونة. إلا أن رهانه جاء خاسراً.
هيدالغو، على الصعيد الشخصي، أم لثلاثة أولاد، اثنان منهم من علاقة سابقة بين العامين 1986 و1988 والثالث الذي وُلد في العام 2001 من زوجها الحالي الرجل السياسي جان مارك جيرمان هو نائب سابق تعرّفت إليه عندما كانا يعملان معاً في مكتب مارتين أوبري، وزيرة العمل السابقة ورئيسة بلدية مدينة ليل بأقصى شمال فرنسا.
وهنا يمكن القول إن ما يصح على هيدالغو وفالس، يصح أيضاً على رشيدة داتي، رئيسة لائحة اليمين التقليدي ومنافسة هيدالغو الأولى في الانتخابات المحلية الأخيرة في باريس. ذلك أن بين المرأتين تشابه كبير في المسار، إذ إن داتي التي ولدت على التراب الفرنسي عام 1965 هي الابنة الثانية لعائلة مغربية من 11 ولداً (سبع بنات وأربعة أبناء). وكان والدها، المبارك داتي، عامل بناء وأمها زهرا من أصل جزائري. وبعد دراستها الجامعية في القانون وعملها في الحقل القضائي لسنوات، حصلت على مرتبة قاضٍ. وبفضل علاقات نسجتها مع متنفّذين سياسيين واقتصاديين، تنقلّت في العديد من المناصب. إلا أن الحظ ابتسم لها حقاً عندما اختارها المرشح الرئاسي اليمين نيكولا ساركوزي، بعد فوزه برئاسة الجمهورية في 2007 وزيرة للعدل، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تصل فيها شخصية من أصول مغاربية إلى منصب وزاري سيادي. وبقيت داتي في هذا المنصب سنتين، لتصبح لاحقاً نائبة في البرلمان الأوروبي ورئيسة بلدية الدائرة السابعة البورجوازية في باريس.

 

صراع ثلاث نساء

السمة الغالبة على «معركة باريس» أن التنافس للفوز برئاسة بلديتها كان بين ثلاث نساء. فبجانب هيدالغو وداتي، كانت المرشحة الثالثة هي أنياس بوزين، وزيرة الصحة السابقة التي اختارها الرئيس إيمانويل ماكرون وحزبه «الجمهورية إلى الأمام» لتحل محل بنجامان غريفو، الوزير السابق والمرشح المستقيل بسبب فضيحة جنسية. وبوزين نفسها متحدّرة من عائلة يهودية بولندية، تركها والدها بعد خروجه من المعتقل النازي متنقلاً بين فلسطين تحت الانتداب البريطاني ومدينة وهران الجزائرية التي كانت وقتها فرنسية، قبل أن يستقر في باريس. وكان الحزب الرئاسي يمنّي النفس بوضع اليد على بلدية العاصمة، لا سيما أن إيمانويل ماكرون حصل على أعلى نسبة من الأصوات في باريس خلال انتخابات ربيع عام 2017 الرئاسية. وكذلك أصاب حزبه النجاح في الانتخابات الأوروبية، العام الماضي.
من هنا، كانت عين الرئيس وحزبه على العاصمة، وكانت المقاربة أنها في متناول اليد إن لم تكن في الجيب. ولذا، جاء التنافس داخل «الجمهورية إلى الأمام» دموياً، وأدى إلى صراعات نتج عنها انشقاق النائب سيدريك فيلاني – وهو عالم رياضي معروف – الذي شكّل لائحة منافسة للائحة الرسمية للحزب ما ساهم في إغراقه وتعرّضه لهزيمة ساحقة ماحقة، إذ لم تحصل لائحة بوزين على أي مقعد في مجلس باريس البلدي المؤلف من 163 عضواً. وفي النتائج النهائية، حصلت لوائح هيدالغو على 96 عضواً، ما يشكّل غالبية مطلقة مريحة، في حين حصلت لوائح داتي على ستين عضواً. وما زاد في مرارة هزيمة بوزين أنها شخصياً سقطت… وهذا أمر لم يسبق أن عرفته الانتخابات البلدية الباريسية.
أهمية باريس ووزنها
هذا التنافس على العاصمة له ما يبرره وله طابعه الاستثنائي. فباريس تتمتع بوهج عالمي، وهي «المدينة التي لا تنام».
إنها حاضرة غنية التراث والفكر والفن والإبداع وقطب جاذب اقتصادياً. وعلى امتداد التاريخ الحديث، كان لمقر بلديتها دور ريادي في الأحداث الكبرى منذ القرن الثامن عشر. ومن هنا، فإن لـ«القصر البلدي» الواقع في قلب المدينة والمطلّ على نهر السين وكاتدرائية نوتردام، وهجاً خاصّاً… وهو يتمتع ببُعد محلي ودولي على السواء. ومن ذلك أن برنامج كل زيارة دولة لرئيس أو ملك أو أمير لا بد أن يتضمن لقاء رئيس/ أو رئيسة البلدية في مقره/ أو مقرها. كذلك، تتمتع البلدية بميزانية تصل إلى 5.209 مليار يورو وباستثمارات سنوية تزيد على 1.5 مليار يورو. وفضلاً عن ذلك، تُعد بلدية باريس من كبريات الجهات الموظِّفة، إذ يزيد عديد موظفيها (لعام 2019) على خمسين ألف موظف… وهو ما يضاهي عدد موظفي مفوضية الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة.
وفي المقابل، ومع أن بلدية باريس تعاني راهناً من ديون تقارب 7 مليارات يورو، فإن منصب رئيس بلدية باريس يمكن أن يكون منصة أو رافعة لمناصب أعلى، وخير دليل على ذلك أن جاك شيراك – الذي احتل هذا المنصب من عام 1977 وحتى عام 1995 – انتقل منها إلى قصر الإليزيه حيث أمضى 12 سنة رئيساً لفرنسا.
نجاحها لم يأتِ مصادفة
لم يكن للمصادفة دور في وصول أن هيدالغو لمنصب رئيسة بلدية باريس للمرة الأولى في عام 2014. ذلك أنها نجحت للمرة الأولى، وهي مرشحة على لوائح الحزب الاشتراكي، في أن تنتخب عضواً في مجلسها البلدي في عام 2001. ولقد سبق وصف هذه المرأة بأنها ذات «شخصية فولاذية»، حتى إن بعض مَن يعمل معها لا يتردّد في الحديث عن «تسلطها» في العمل وفي التعاطي مع مساعديها. ولقد كان من حظها الكبير أن رئيس البلدية السابق برتراند دولانويه حرص على المساواة بين الجنسين في إدارة البلدية، فاختار هيدالغو مساعدة له لشؤون المساواة بين الجنسين.
وبعدما أصيب دولانويه بطعنة خنجر في 5 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2002، شغلت هيدالغو (بوصفها المساعدة) منصبه، ما سلّط عليها الأضواء ودفعها إلى الواجهة. وشيئاً فشيئاً، جذّرت حضورها في العاصمة. ورغم فشلها بالفوز في دائرتها خلال عام 2007، فإنها بقيت مساعدة دولانويه الأولى المكلفة التطور العمراني والهندسة المعمارية للعاصمة. وبفضل قربها منه، فإنه سعى لأن تكون خليفته على رئاسة البلدية، وهو ما تحقق لها في عام 2014.
قبل عامين، ما كان أحد يتصور أن تنجح هيدالغو بالفوز بولاية ثانية في العاصمة. فالانتقادات ضدها كانت تصبّ من كل حدب وصوب. وكان يؤخذ عليها أزمات السير الخانقة، والأشغال التي تبدأ ولا تنتهي، وتدهور حالة النظافة، وتكاثر المتسولين وتفشي الفقر، وهجرة الباريسيين من العاصمة وتفضيلهم تأجير مساكنهم لكسب المال وتحوّل العاصمة لمدينة سياح منم غير مقيمين، والارتفاع المجنون لأسعار الشقق، وغياب الأمن، فضلاً عن النقص في وسائط النقل العام… كل هذه وغيرها من المآخذ التي فصلت طولاً وعرضاً. إلا أن هيدالغو استطاعت أن تقلب الموازين مستفيدة من محنة «كوفيد – 19» وسرعة تصرفها، خصوصاً من نجاحها في بناء جبهة متراصة تجمع كل اليسار المتحالف مع «الخضر». ثم إنها استفادت من الانقسامات في معسكر حزب «الجمهورية إلى الأمام» وتعذر الجمع بين لوائحه ولوائح اليمين التي قادتها رشيدة داتي.
الطموح والمحطة التالية
السؤال المطروح اليوم هو التالي: هل سيتوقف طموح هيدالغو عند «القصر البلدي» أم أنها تطمح لقصر آخر اسمه «الإليزيه»؟
الواقع أن جاك شيراك كان سبّاقاً، إذ انتقل بعد 17 سنة أمضاها في «القصر البلدي» إلى «الإليزيه». لكن هيدالغو تؤكد لمن يريد أن يسمع أن طموحها هو باريس وتحويلها إلى مدينة خضراء وإنجاح الألعاب الأولمبية التي ستستضيفها في عام 2024.
إلا أن التصريحات شيء والطموحات المخبأة شيء آخر، وطبعاً، لا مصلحة لها اليوم في أن تكشف عن رغباتها العميقة. لكنها تمتلك أوراقاً مهمة، أهمها أنها الشخصية البارزة التي أعادت الحزب الاشتراكي ومعه اليسار إلى الواجهة بعدما كان يحتضر… ولا شيء يمنع مستقبلاً أن تحاول وأن تسعى. ولها في ذلك مؤيدون وأنصار، وقد تكون الشخصية التي ستجرؤ… مقتفية بذلك أثر سيغولين رويال، الشخصية اليسارية الأخرى التي تحدّت في عام 2007 نيكولا ساركوزي على الرئاسة، ولكن من غير أن تصيب النجاح.
aawsat

 

زر الذهاب إلى الأعلى