أوروبا تكافح خوفاً من “شتاء قارس”
تحول الغاز الطبيعي إلى سلاح في المعركة القائمة بين روسيا والغرب، منذ الحرب الروسية في أوكرانيا، في وقت تكافح فيه دول الاتحاد الأوروبي وقف الاعتماد على الغاز الطبيعي الروسي، لتحاول إرضاء المستهلكين القلقين في الداخل، بعد أن قررت موسكو إغلاق صنبور الضخ و”تقطير” الغاز الروسي باتجاه أوروبا.
ويبدو أن الاتحاد الأوروبي على موعد مع شتاء قادم شديد البرودة، ليس بسبب درجات الحرارة المتدنية فقط، بل لأن روسيا على ما يبدو تعاقب دول التكتل عبر الطاقة، لذا تحاول دول القارة العجوز تجاوز كابوس الشتاء القارس هذا العام، والعيش في ظلام، نتيجة لإمكانية وقف روسيا لإمدادات الغاز بشكل كامل.
وعشية اجتماع أوروبي طارئ لمناقشة خطط خفض استخدام الغاز الروسي بنسبة 15% خلال الأشهر المقبلة، كان مبعوثو دول الاتحاد الأوروبي لا يزالون يتفاوضون حول حل وسط، من شأنه أن يُبقي جميع الدول الـ27 على توافق بحلول مساء اليوم الثلاثاء.
إجراءات طارئة
وفي وقت سابق اليوم، اتفقت دول الاتحاد الأوروبي على إجراءات طارئة لتقليل استخدامها للغاز الروسي في الشتاء المقبل، وذلك خوفاً من سياسة الغموض المتعلقة بإمدادات الغاز من روسيا خلال الشتاء.
وكتبت رئاسة الاتحاد الأوروبي الذي تتولى جمهورية التشيك رئاسته الدورية، على “تويتر”، تقول: “لم تكن هذه مهمة مستحيلة. الوزراء توصلوا إلى اتفاق سياسي بشأن خفض الطلب على الغاز قبل الشتاء القادم”. وهو ما يمكن تفسيره بأنه اتجاه نحو تقنين استخدام الغاز.
وبعد يوم واحد من إعلان شركة “غازبروم” الروسية خفضاً جديداً في تسليمات الغاز لأوروبا، توصلت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق على خطة تقتضي خفض استهلاك الغاز في الدول الأعضاء بنسبة 15% وخفض اعتمادها على الإمدادات الروسية خلال فصل الشتاء، الذي يحل باكرا في أوروبا.
وقال مجلس الوزراء الأوروبي في بيان إنه: “في محاولة لزيادة أمن الاتحاد الأوروبي من إمدادات الطاقة، توصلت الدول الأعضاء اليوم إلى اتفاق سياسي على خفض طوعي للطلب على الغاز الطبيعي بنسبة 15 في المئة هذا الشتاء”.
وتنص خطة بروكسل التي بحثتها الدول الأعضاء، على أن كل بلد “يبذل كل ما بوسعه” للحد من استهلاكه من الغاز بين أغسطس (آب) 2022 ومارس (آذار) 2023 بما لا يقل عن 15% بالمقارنة مع متوسط الفترة ذاتها خلال السنوات الخمس الأخيرة.
وفي حال وجود “مخاطر نقص حادّ” تدعو بروكسل إلى تفعيل آلية إنذار بعد التشاور مع الدول، يصبح بموجبها خفض الاستهلاك بنسبة 15% “ملزماً” للدول الـ27، وهو “ما يعني انخفاض الطلب على الغاز من روسيا التي تستخدم بشكل متواصل إمدادات الغاز كسلاح”.، بحسب البيان الأوروبي.
ومن جانبها، قالت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، اليوم، إنه ينبغي على دول الاتحاد الأوروبي وقف اعتمادها على الغاز والنفط الروسي، مضيفةً في مؤتمر صحافي، مع نظيرها التشيكي، يان ليبافسكي، في براغ، إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستخدم الطاقة سلاحاً في حرب هجينة على أوكرانيا والغرب.
وأضافت: “لذا، من المهم جداً بالنسبة لنا وقف الاعتماد على وارادات الوقود الأحفوري الروسي”، مؤكدة أن دول الاتحاد الأوروبي ستواصل اتخاذ خطوات تجاه هذا الهدف، والحفاظ على وحدتها وعزمها.
كما رحبت الوزيرة الألمانية بالاتفاق الذي توصل إليه وزراء طاقة الاتحاد الأوروبي للحد من استخدام الغاز في جميع أنحاء التكتل، من أجل الاستعداد لانقطاع محتمل لإمدادات الغاز هذا الشتاء، مضيفة “بهذه الطريقة، نؤكد وحدتنا ونظهر أننا لن ننقسم”.
وأفاد وزير الطاقة في لوكسمبورغ كلود تورم في تغريدة بأن هنغاريا (المجر) هي الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تصوّت ضد الخطة التي وصفها بأنها “الأفضل للرد على ابتزاز (الرئيس فلاديمير) بوتين المرتبط بالغاز”.
وفي سياق متصل، قالت صحيفة “الباييس” الأسبانية الواسعة الانتشار، إن المقترح الجديد “كشف عن انقسامات عميقة بين دول الاتحاد الـ 27 ، ومع ذلك، فإن التناقضات في الأسابيع الأخيرة تتجاوز مجال الطاقة، وذلك لأن الاختلافات بين “الشمال” و”الجنوب” كبيرة في مسائل السياسة المالية والنقدية.
خفض جديد
وسادت حالة من الذعر والتخبط في أوروبا، بعد إعلان عملاق النفط الروسي، “غازبروم”، عن تخفيض صادرات الغاز الطبيعي عبر خط نورد ستريم إلى 33 مليون متر مكعب.
وكان “غازبروم” قد أعلن أمس الاثنين خفض الإمدادات إلى الاتحاد الأوروبي عبر خط أنابيب نورد ستريم 1 إلى 20 % من قدرته الاستيعابية، مما عزز المخاوف من استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغاز لمواجهة معارضة دول أوروبا للحرب في أوكرانيا.
ومن المقرر أن يخفض عملاق الطاقة الروسي المملوك للدولة، الإمدادات إلى أوروبا اعتباراً من يوم غدٍ الأربعاء، مما يمثّل تهديداً لاقتصادات مثل ألمانيا، التي تعتمد على الغاز الروسي في الطاقة والصناعات الكيميائية.
أسعار الغاز تشتعل
وغداة إعلان “غازبروم”، خفضها الجديد للإمدادات إلى أوروبا، واصل سعر الغاز الأوروبي ارتفاعه اليوم مسجلاً أعلى مستوياته منذ سعره القياسي في مارس (آذار).
وجرى التداول بغاز “تي تي إف” الهولندي، الغاز الطبيعي المرجعي في أوروبا، بحدود سعر 189.75 يورو للميغاوات ساعة بعدما تخطى 190 يورو للميغاوات ساعة، مسجلاً المستويات التي شهدها عند بدء العملية الروسية في أوكرانيا، ما أدى إلى ارتفاع أسعار النفط أيضاً.
وكانت شحنات الغاز الروسي تمثل نحو 40 % من واردات الاتحاد الأوروبي حتى العام الماضي.
أسعار الكهرباء
وبدورها، ارتفعت أسعار الكهرباء في أوروبا إلى مستويات قياسية، في ظل معاناة سوق الطاقة الأوروبية من نقص إمدادات الغاز الطبيعي القادمة من روسيا.
وذكرت وكالة “بلومبرغ” للأنباء أن أسعار العقود الآجلة للكهرباء ارتفعت في ألمانيا بأكثر من 10% وفي فرنسا بنسبة 5.5%.
ويعني هذا أن أوروبا ستعاني من نقص إمدادات الوقود الحيوي اللازم لتشغيل محطات توليد الكهرباء في الوقت الذي تعاني فيه شركة الكهرباء الفرنسية إلكتريسيتيه دو فرانس (إي.دي.إف) من مشكلات في تشغيل مفاعلاتها النووية، حيث أن أقل من 50% من إجمالي مفاعلاتها النووية هي التي تعمل بالفعل.
في الوقت نفسه فإن ارتفاع اسعار الطاقة سيتحول إلى مزيد من المعاناة للمستهلكين والشركات والصناعة التي تعاني بالفعل من تداعيات ارتفاع نفقات المعيشة نتيجة ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات قياسية.
الأسهم الأوروبية
فيما، تراجعت الأسهم الأوروبية، اليوم، وقادت أسهم ألمانيا وإيطاليا الانخفاضات في بورصات منطقة اليورو الرئيسية مع اتفاق دول الاتحاد الأوروبي على خطة طوارئ لكبح الطلب على الغاز، بينما تراجعت أسهم التجزئة بعد تحذير من وول مارت بشأن الأرباح.
ومن جانبه، اعتبر المحلل تاماس فارغا، من مجموعة “بي في أم للطاقة” أن “الأسهم الأوروبية بعيدة عن مستوى الـ90% المطلوب، وهناك مخاوف متزايدة من أن تستخدم روسيا الغاز الطبيعي كسلاح للحصول على تنازلات من الغرب في إطار حرب أوكرانيا”.
غضب أوروبي
وقال وزير الصناعة التشيكي جوزيف سيكيلا، الذي يتولى أيضاً وزارة الطاقة: “الشتاء قادم ولا نعرف كم سيكون الطقس بارداً، لكن ما نعرفه على وجه اليقين هو أن بوتين سيواصل ممارسة ألعابه في الابتزاز وإساءة استخدام إمدادات الغاز”، علي حد وصفه.
واعتبرت مفوضة الطاقة بالاتحاد الأوروبي، كادري سيمسون، إعلان شركة غازبروم الروسية العملاقة للغاز أنها ستخفض مزيداً من عمليات التسليم إلى أوروبا هذا الأسبوع خطوة بدوافع سياسية.
وأضافت سيمسون لدى وصولها إلى بروكسل لحضور اجتماع لوزراء الطاقة في دول الاتحاد الأوروبي “نعرف أنه ليس هناك سبب فني للقيام بذلك، هذا تحرك بدوافع سياسية وعلينا أن نكون على استعداد لذلك”.
واعتبرت رئاسة الاتحاد الأوروبي أن خفض إمدادات الغاز “دليل جديد” على وجوب عدم الاعتماد على موسكو، فيما دعت الحكومة الألمانية المواطنين إلى خفض استخدام الغاز بعد إعلان “غازبروم” خفض إمداداتها.
واعتبر نائب المستشار الألماني ووزير الشؤون الاقتصادية وحماية المناخ روبرت هابك أن روسيا تلعب “لعبة ماكرة” بإعلانها عن خفض إمدادات الغاز عبر خط أنابيب “نورد ستريم 1”.
وبدوره، قال الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إن إعلان غازبروم محض “ابتزاز بالغاز” ضد أوروبا، وأن موسكو تشنّ حرباً بالغاز على أوروبا.
وكانت روسيا أعلنت في وقت سابق من يوليو (تموز) الحالي وقف إمدادات الغاز في خط “نورد ستريم1” الذي يمد ألمانيا بالغاز لأسباب قالت إنها تتعلق بالصيانة، وبعدما عادت إمدادات الغاز، قالت موسكو إنها ستنخفض مجدداً بسبب تقني لم يقنع برلين.
حرب الطاقة
ونقلت “سكاي نيوز” عن مراقبون، أن الأمور تتجه نحو تسعير “حرب الطاقة” بين الروس والأوروبيين، مع تواصل الحرب العسكرية في أوكرانيا، محذرين من أن هوامش التحرك تكاد تكون معدومة أمام الأوروبيين لتعويض الغاز الروسي، خاصة أن عامل الوقت يضغط عليهم، ففصل الشتاء عادة ما يحل باكراً في البلدان الأوروبية.
ويجادل مراقبون بأن من حق موسكو توظيف أوراق قوتها ومنها ورقة الطاقة في وجه العقوبات والضغوط الغربية، فيما يرى آخرون أن إقحام لطاقة وممارسة الابتزاز فيه لا يقل خطورة عن اللعب بورقة السلع الغذائية الاستراتيجية كالقمح، وما يشكله ذلك كله من مس بالأمن الطاقي والغذائي للعالم.
نفط دون شروط
ومن جهته، قال وزير الخارجية الروسي سيرخي لافروف اليوم إن روسيا مستعدة لبيع النفط الخام لأي دولة معنية.
وقال لافروف في مؤتمر صحافي “نبيع النفط لأي دولة معنية.. وإذا أراد هذا البلد أو غيره النفط الروسي فلا عقبات سواء كانت الهند أو الصين أو أي دولة أفريقية”.
وأضاف وزير الخارجية الروسي لا نبيع النفط فحسب، بل نساعد أيضًا في تطوير الصناعات الوطنية لمعالجة الهيدروكربونات وإنتاج المنتجات النفطية واستخدام الغاز الطبيعي في القطاع الصناعي.
وأشار وزير الخارجية الروسي أيضاً إلى أنه على الرغم من مراعاة جميع لوائح الاتحاد الأوروبي أثناء بناء ، فقد تبنت المفوضية الأوروبية بأثر رجعي توجيهات تبطئ إنجاز المشروع.
وقال لافروف أن قصة استخدام روسيا للغاز كسلاح ليست جديدة، في حين أن الاتحاد الأوروبي نفسه فعل كل ما في وسعه للحد من قدرة مشروع روسي آخر نورد ستريم 1.
وقال الوزير “الاتحاد الأوروبي يقول منذ ست إلى سبع سنوات أن روسيا تستخدم الغاز كسلاح، دون إعطاء أي أمثلة محددة وفي نفس الوقت يفعل كل شيء للحد من قدرة ضخ الغاز التي تمتلكها نورد ستريم 1”.