مقابل الهجوم على الفرنسية في دول عربية.. اللغة العربية تعزز حضورها في أوساط شباب فرنسا
24 – باريس
في مُقابل الهجوم الذي تتعرّض له اللغة الفرنسية في عدد من الدول العربية كالجزائر وموريتانيا بهدف تقنين انتشارها واستخدامها كلغة رسمية، نجد أنّ اللغة العربية تُعزّز حضورها أكثر في المجتمع الفرنسي وخاصة بين فئة الشباب، بالتوازي مع السماح بتعليمها في المدارس الرسمية بدءاً من العام الماضي.
بالطبع فإنّ “الضّاد” لم تكن تُعامل أبداً كغيرها من اللغات الأجنبية الأخرى المُنتشرة في فرنسا، إذ لا يزال يربطها البعض بالخوف من جماعات الإسلام السياسي المُنتشرة بكثرة على الأراضي الفرنسية.
وقد تجلّى ذلك بشكل واضح، في الهجوم العنيف الذي قُوبل به وزير التعليم جان ميشال بلانكر، رغم أنه ينتمي لأقصى اليمين، عندما قال إنه “يمكننا تعليم اللغة العربية في رياض الأطفال مؤكداً أنّها لغة مُهمة مثل اللغات والحضارات الأخرى، ويجب تنميتها وإعطاؤها مكانتها، فقد انتُقد بشدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبار أن هذا الإجراء يُشكّل خطوة أخرى نحو ما يُسمّى “الاستبدال – الانفصال العظيم” في إشارة لما بات يُطلق عليه مصطلح “الانفصالية الإسلاموية”.
وهذا ما حصل أيضاً مع رئيس معهد العالم العربي في باريس، جاك لانغ، وهو وزير ثقافة سابق، عندما أطلق قبل نحو عامين كتاب “اللغة العربية.. كنز فرنسا” قال فيه إنّ “الوقت حان لتأخذ العربية مكانها في المدارس الفرنسية”.
وفي خضم التحضير للانتخابات الرئاسية القادمة في فرنسا العام القادم، يقود المرشح للرئاسة، الكاتب الفرنسي المعروف بمواقفه العنصرية إريك زمور، الذي يقول إنه “معجب باللغة العربية أدبياً وموسيقياً فقط، حملة إلى حدّ الكره المرضي باعتبارها من وجهة نظره لغة الإسلاميين الإرهابيين”.
لكنّ بلانكر ولانغ ومفكرون وباحثون وسياسيون فرنسيون، وحتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يرون أنّ تعزيز اللغة العربية بعيداً عن المراكز الدينية ذات التمويل الخارجي والأهداف الأيديولوجية، يُعتبر إحدى وسائل مكافحة ما تندد به السلطات حول “الانفصالية” إذ لا يُعقل أن ترفض الجمهورية بعض أبنائها وتاريخهم وثقافتهم.
كان مركز أبحاث ليبرالي في فرنسا نشر تقريراً يتضمن مُقترحات للتصدّي لصناعة الإسلاميين ومُكافحة الخطاب السلفي، من بينها إحياء تعليم اللغة العربية في المدارس العامة الفرنسية. ورغم معارضة نوّاب اليمين الفرنسي، إلا أنّ وزارة التربية والتعليم في فرنسا اتخذت قرارها النهائي، مُعتبرة أنّ تعليم اللغة العربية يصبّ في جهود وخطوات اندماج الجاليات العربية في المجتمع الفرنسي، ويُبعدها عن محاولات استقطابها على يد عدد كبير من أئمة المساجد في فرنسا.
العربية في أرقى الأحياء الباريسية
في الجانب المُشرق أيضاً لحضور لغة الضّاد في فرنسا، تناولت صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية، مؤخراً ظاهرة جميلة فريدة من نوعها، تتمثّل في استخدام الشباب الفرنسي، سواء في ضواحي باريس أو في أرقى أحياء العاصمة والمُدن الفرنسية الأخرى، للكثير من مفردات اللغة العربية في الحياة اليومية، ناقلة عن علماء نفس أنّ استخدام الكلمات العربية بات طريقة يُعبّر بها الشباب الفرنسي عن ذاته، إذ لم تعد العربية ترمز للفكر المتشدد، وذلك مثلما يستخدم كثيرون في العالم اللغة الإنجليزية للظهور بشكل جذاب، وتعبيراً عن محبتهم لهذه اللغة.
آرتور، وهو شاب فرنسي لم يسبق له أن زار أيّ بلد مغاربي أو عربي من قبل، إلا أنّ عباراته وأحاديثه لا تخلو من الكلمات العربية، حيث يقول إنّ هذه الكلمات أصبحت معروفة في مفهوم الشباب وتقريباً لم تعد الكلمات الفرنسية المرادفة لها تستخدم فيما بينهم، ومن ذلك مثلا كلمة “خلّص” التي تعني دفع الفاتورة أو الثمن في اللهجات المغاربية، حيث لم تعد الكلمة الفرنسية المرادفة لها مُستخدمة. وذلك أيضاً على غرار كلمات كثيرة مثل “المال” و”بصحتك”.
ويوضح لوك بيشلي، عالم اللسانيات الاجتماعية والمحاضر بجامعة “أفينيون”، أنّ العربية المُستخدمة في أوساط الشباب الفرنسي “هي بالأساس اللغة العربية المغاربية، إذ نادراً ما تُستخدم اللغة العربية الأدبية في فرنسا”. وتُشير اليومية الفرنسية، إلى أنّ هذه الظاهرة التي كانت تقتصر من قبل على الأحياء الشعبية حيث تتواجد جالية مغاربية كبيرة، وصلت في السنوات الأخيرة إلى شباب الأرياف والطبقة البرجوازية والمدن الصغرى في البلاد.
“لو فيغارو” وبمناسبة قُرب اليوم العالمي للغة العربية، كشفت أنّ آخر التقديرات تُشير إلى وجود حوالي 500 كلمة في اللغة الفرنسية يستخدمها الشباب في البلاد، وذكّرت قرائها بخمس عشرة كلمة شرقية يقولونها كل يوم دون أن يدروا، ومنها: “توليب”، “كارافان”، “سمت”، “قهوة”، “ياسمين”، “برتقال”، “سبانخ”، … داعية لإعادة اكتشاف تاريخها وأصولها.
وفي هذا الصدد، ذكرت أنّه في القرن الثاني عشر، تمّ إثراء لغة موليير بالمفردات المستمدة من اللغة العربية المكتوبة، حيث أنّ “الأطباء والصيادلة والكيميائيون وعلماء الرياضيات والفلك هاجروا من أوروبا طلباً للعلوم العربية”. كما انتقلت بعض الكلمات العربية إلى أفواه البحارة والتجار الذين كانوا يبحرون في البحر الأبيض المتوسط “تجار من البندقية وجنوة، من الذين تمّت دعوتهم لإقامة طويلة في الشرق، وكانوا على اتصال بالملاحين والتجار العرب، إذ لعبوا لاحقاً دور الوسطاء الثقافيين”. كما شكل الوجود العربي الإسلامي في الأندلس خلال 8 قرون، مصدراً آخر للكلمات العربية، ولاحقاً ساهمت الحملات الصليبية في ذلك أيضاً.
يقول عالم اللسانيات الفرنسي جان بروفوست، مؤلف كتاب “أسلافنا العرب، ما ندين به لهم”، إنّ اللغة الفرنسية استوعبت في الماضي الكثير من الكلمات من الإيطالية والإسبانية، وأيضا من العربية. وحسب بروفوست، فإنّ التلاقح بين اللغتين الفرنسية والعربية بدأ خلال الحروب الصليبية، ثم ظهرت كلمات كثيرة في اللغة الفرنسية من أصل عربي، مثل “الوزير” و”الأمير”، وكلمات أخرى خلال الوجود الفرنسي في الجزائر مثل “بلاد”، واستمر الأمر من خلال التجارة الموازية وأغاني الراب وغيرها من العوامل الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
وعن طريق 400 كلمة في مختلف مجالات واختصاصات الحياة، يُصالح بورفوست، الفرنسيين مع جزء كبير وواسع من تراثهم اللغوي العربي الثري، كاشفاً عن الدور المحوري والتاريخي الذي لعبته لغة الضّاد، في تأكيد انفصال الفرنسية اللاتينية من جهة، ودعم مسار تطورها عبر التاريخ من جهة أخرى، لتكون العربية ثالث لغة بين أكثر اللغات حضوراً في مفرداتها وكلماتها في أعماق اللغة الفرنسية، وذلك بعد الإنجليزية والإيطالية، وقبل اللاتينية القديمة والغاليّة (اللغة الأصلية للفرنسيين القدامى).