داود الفرحان: المنطقة الرمادية بين النزاهة والفساد في العراق
أظهرت دراسة حديثة لمنظمة الشفافية الدولية تراجعاً واضحاً في مكافحة الفساد والرشوة الحكومية والدولية على مستوى العالم، وأن الحرب على الفساد الإداري لا تحقق نجاحاً ملحوظاً في معظم دول العالم. ومن «منجزات» 5 حكومات متتالية في بغداد بعد الاحتلال الأميركي وصولاً إلى الاحتلال الإيراني أن العراق ظل طوال 18 عاماً محافظاً على مقعده في ذيل قائمة أكثر الدول فساداً، إلى جانب سوريا واليمن والسودان ولبنان والصومال وليبيا. بينما احتلت بجدارة المراكز الخمسة الأولى الأقل فساداً، الدنمارك ونيوزيلندا وفنلندا وسنغافورة والسويد.
ما هي العوامل التي أدت إلى اعتبار التجربة السنغافورية في مكافحة الفساد أنجح تجربة على المستوى الدولي؟ كيف استطاعت سنغافورة، تلك الجزيرة الآسيوية الصغيرة التي كانت جزءاً من ماليزيا قبل أن تعلن انفصالها في عام 1965 بأسلوب سلمي أن تقضي على الفساد؟
العوامل باختصار هي؛ الرغبة السياسية الجادة وليست الإعلامية في القضاء على الفساد، ووضع استراتيجيات وآليات جديدة لمحاربته، بالإضافة إلى رفض المجتمع المدني للفساد وسيلة للعيش. واعتمدت سنغافورة في معركتها مع هذه الآفة على التحقق من سوء استخدام السلطة من قبل المسؤولين، واتباع سياسات من شأنها مكافحة الفساد في الجهاز الإداري والقطاع الخاص، ومراجعة منظومات العمل في الهيئات والوزارات المختلفة والفحص الدقيق للحالة الاجتماعية للموظف وممتلكاته قبل التوظيف. وحددت مرتكزات لتعزيز إرادة سياسية ثابتة وواضحة وحاسمة، من أهمها وجود قوانين صارمة وغرامات مرتفعة ضد الفاسدين، وضمان سيادة القضاء واستقلاليته وكفاءته ونزاهته وعدم تساهله مع الفاسدين. ولم تتردد سنغافورة في الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في هذا المجال وتبني المعايير الدولية، والفصل بين الوزارات وهيئات المراقبة لضمان الاستقلالية وعدم وجود ضغط سلطوي على الرقباء. ومع كل ذلك، فإنها وضعت معايير وقوانين واضحة ودقيقة يستند إليها الموظف في أدائه لعمله من أجل تفادي المنطقة الرمادية بين الواجب الوظيفي والقوانين، وهي المنطقة التي يستغلها مرضى الفساد. وبتطبيق هذه السياسة، احتلت سنغافورة مركزها الرابع في مكافحة الفساد على مستوى العالم.
منظمة الشفافية الدولية، غير الحكومية، معنية بالفساد، وبضمنه «الفساد السياسي» وهو أخطرها، ومقرها الرئيسي في برلين منذ تأسيسها في عام 1993. وضعت مقاييس لمكافحة الفساد على نطاق واسع، وحددت الدعائم الأساسية التي ترجح بشكل عام غياب الفساد أو محدوديته، وهي «الشفافية» في قياس إتاحة المعلومة وفاعلية الحق في الوصول إليها، و«المساءلة» هي درجة استجابة القطاع العام لحاجة أو طلبات المواطنين للحصول على معلومات حول إدارة الشأن العام، و«النزاهة» في فاعلية تنفيذ الأحكام في منع الفساد.
ومع أن معظم الدول تعترف بنزاهة التقرير السنوي لهذه المنظمة، فإنها أثارت في «حادث فريد» الجدل حول تقرير أصدرته عن شركة النفط الفنزويلية المملوكة للدولة في عام 2008. يزعم أن الشركة فشلت في الكشف عن معلومات أساسية مثل مقدار زيادة دخل الشركة والضرائب التي دفعتها، ونتيجة لذلك تم تقييم الشركة في الترتيب الأدنى ضمن 42 شركة نفط عالمية. وتبين بعد ذلك أن تقرير الشفافية كان خاطئاً وكل معلومات الشركة الفنزويلية كانت متوفرة علانية، وهو ما دعا إلى توجيه اتهام أممي إلى المنظمة بالتحامل ضد الحكومة الفنزويلية تماشياً مع الحملة الأميركية ضد هذا البلد.
وفي العراق ربما يكون رئيس وزراء العراق جاداً أو راغباً في استرداد الأموال العامة، لكن الأمر ليس هيناً، لأن حُماة الفاسدين كثيرون والقوى المؤثرة في البلاد مثل الميليشيات و«الحشد الشعبي» والتدخلات الإيرانية التي وصلت إلى حد أن يقوم السفير الإيراني في بغداد بزيارات تفقدية للبنك المركزي العراقي حيث تجري مزادات الدولار الأميركي باستمرار، ويتم البيع بأسعار متهاودة وتهريب الأموال إلى إيران ولبنان والأردن والإمارات وتركيا وبريطانيا بمختلف الحجج، من الاستيراد إلى تسديد ديون، إلى عقود استثمارية وهمية مع شركات أجنبية على الورق فقط، مقابل عمولات خرافية ورشا. لقد هدد الافلاس البلاد وهذ بيّنٌ من خلال تأخير صرف رواتب الموظفين والمتقاعدين أكثر من مرة، وحدوث تضخم كبير في العملة العراقية، أدى إلى ارتفاع أسعار الدولار في السوق المحلية.
أما عن مؤتمر بغداد حول الفساد فقد تميز المؤتمر بالعموميات اللفظية في معالجة أهم قضية تواجه أكثر من نصف دول العالم، وليس العراق وحده، فقد أشار وزير العدل العراقي إلى أن هناك «ضعفاً في الجهود الدولية» لاسترداد الأموال المنهوبة، وأن هناك أيضاً «صعوبات» تحول دون تطبيق استرداد تلك الأموال. ومن جانبه، قال الأمين العام لجامعة الدول العربية الذي حضر المؤتمر إن مواجهة الفساد «معقدة للغاية». واتهم رئيس «هيئة النزاهة العراقية» دولاً عربية لم يذكرها بالاسم بأن الفساد «مستشرٍ في بعض مؤسساتها» من دون أن يشير إلى الفساد في العراق نفسه. وشهدت الأشهر الأخيرة من العام الحالي اعتقال عدد من «وسطاء الفاسدين» في أجهزة الدولة مثل مدير عام المصرف الزراعي ومدير شركة «كي كارد» ومدير هيئة التقاعد ورئيس هيئة استثمار بغداد، لكن الشعب العراقي اعتاد سماع اعتقال بعض الوزراء والمحافظين والمديرين العامين بتهم الفساد، ثم يتم إطلاق سراحهم «لعدم كفاية الأدلة» بعد تدخل الأحزاب التي يرتبط بها هؤلاء المسؤولون.
وأشارت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية قبل أيام إلى أن المحاكم العراقية أصدرت أحكاماً بالسجن على وزير دفاع سابق لاختلاس مليار دولار، ووزير الكهرباء الأسبق لتهريب مليارات الدولارات، ووزير التجارة الأسبق لسرقته 4 مليارات دولار، وتم الحكم عليه بالسجن 21 عاماً، ثم «هرب» من السجن إلى الخارج، وأعيد عن طريق الإنتربول إلا أن المحاكم العراقية أفرجت عنه وشملته بالعفو العام عن سرقة 4 مليارات دولار من دون مطالبته بتسديدها!
تقدِر اللجنة البرلمانية في البرلمان العراقي سقف الأموال المنهوبة من العراق بنحو 350 مليار دولار، ما حوّل شعار «مكافحة الفساد» إلى نكتة خُصص لها مؤتمر كان المسؤولون العراقيون يؤكدون فيه أن إطاحة رؤوس الفساد الكبرى تمثل أمراً «صعباً» لعدم وجود وثائق أو أدلة مباشرة ضدهم. وفي دول كثيرة تم استحداث هيئات أو مراكز لمكافحة الفساد في الحكومة والشركات التي تساهم فيها الدولة، وذلك لخلق بيئة عمل تتسم بالنزاهة والشفافية والصدق والعدالة والمساواة.
يقول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: «إن الفساد فعل إجرامي لا أخلاقي وخيانة للأمانة المستودعة من الشعب، وضرره يكون أشد جسامة في أوقات الأزمات. وقد اختارت الأمم المتحدة يوم 9 ديسمبر (كانون الأول) من كل عام يوماً دولياً لمكافحة الفساد».
عالمياً، يعتبر قانون مكافحة الفساد الأميركي بمثابة تشريع نموذجي يهدف إلى الحد من تأثير المال على السياسة الأميركية من خلال إصلاح قوانين الاسترضاء والشفافية وقوانين تمويل الحملات الانتخابية. والسلطات البريطانية لا تتردد في معاقبة وردع المتهمين بقضايا الفساد المالي. وفي يوليو (تموز) الماضي، أعلن وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب فرض عقوبات عابرة للقارات على 5 أشخاص، أحدهم عراقي، والبقية من غينيا الاستوائية وزمبابوي وفنزويلا. وفي الواقع أن قوانين مكافحة الفساد يجب أن تكون عابرة للحدود والقارات، باعتبار أن العدالة أمل عالمي لا يقتصر على دولة معينة. وأكثر من ذلك، كان القانون البريطاني يمتد إلى خارج حدود إنجلترا، ويطال مسؤولين كباراً، كما حدث مع مالك بنك يونيفرسال في روسيا الذي ساعد في عملية احتيال بقيمة 230 مليون دولار. وتمت معاقبة 13 شخصاً روسياً معه بتهمة احتيال ضريبي كبير.
باختصار… الدول المتقدمة تؤمن بأن للفساد تأثيراً مدمراً، لأنه يبطّئ التنمية، ويستنزف ثروات الدول الفقيرة والرخوة، ويُبقي شعوبها محاصرة بين براثن الفقر.
نقلا عن الشرق الاوسط