داود الفرحان: سياحة لاسترجاع الأحزان والمآسي
ارتبطت السياحة في أذهان معظم البشر بالسفر إلى مدن داخل بلدهم أو خارجها، للترفيه والاستجمام وقضاء العطلات السنوية أو الدورية. لكن السياحة مثل الطعام، أشكال وألوان؛ فهناك السياحة الثقافية، والسياحة الدينية، والسياحة الشاطئية، والترفيهية، والطبيعية، والعلاجية، والجبلية، والصحراوية، والبحرية؛ حيث تشتهر مغامرات ركوب الأمواج ورحلات الصيد في أعالي البحار.
وهناك لمن يرغب السياحة التأملية، وتشتهر بها دول شرق آسيا والهند والأردن؛ حيث هناك الاسترخاء على سواحل البحر الميت والتفكير والتأمل. وهي سياحة راقية على المستوى العالمي. ومع بزوغ شمس القرن الحادي والعشرين ظهرت السياحة الفضائية، وهي عالية التكلفة، وتتبناها حالياً روسيا فقط. لكن أن تحمل حقيبتك وتذكرتك وتذهب إلى جهات سياحية حزينة أو دامية أو مظلمة، فهذه بدعة جديدة في عالم السياحة. وتتجلى هذه السياحة في السفر إلى مواقع ارتبطت تاريخياً بالموت والمآسي الإنسانية، أو الوجه البشع للإنسان.
أول ما يتبادر إلى الأذهان في هذا النوع من السياحة هو متحف «هيروشيما» التذكاري للسلام، لتخليد القنبلة الذرية التي ألقتها طائرة أميركية قاذفة من نوع «بي 29»، بقيادة الطيار بول تبيتس يوم 6 أغسطس (آب) 1945. وأطلق الطيار اسم والدته «إينولا جاي» على الطائرة التي حملت قنبلة، كان اسمها بالشفرة السرية «الولد الصغير»، وقتلت 66 ألف شخص فوراً، ثم تصاعد الرقم إلى 140 ألف شخص غالبيتهم من المدنيين. وأرادت الولايات المتحدة تكريم الطيار القاتل، فقررت تعيينه ملحقاً عسكرياً في السفارة الأميركية لدى الهند؛ لكن الحكومة الهندية والمعارضة السياسية هناك اعترضتا على تعيينه فلم يسافر، وتوفي عام 2007 عن عمر 92 عاماً.
وبعد ثلاثة أيام من استهداف هيروشيما، تم إطلاق قنبلة ذرية ثانية اسمها «الرجل البدين» على مدينة ناغازاكي؛ حيث قتلت 40 ألف شخص فوراً، وأكثر من 15 ألف شخص بعد ذلك. واستسلمت اليابان.
الولايات المتحدة أقامت «متحف الحرب العالمية الثانية» في نيوأورليانز، وبشكل خاص لتخليد يوم إنزال نورماندي في الساحل الفرنسي على المحيط الأطلسي قبيل انتهاء تلك الحرب. وتزوره سنوياً أعداد متزايدة من السياح لمشاهدة بانوراما تاريخية لذكرى المحاربين الأحياء والأموات. وخلَّدت السينما الأميركية الحدث في فيلم كبير يحمل عنوان «أطول يوم في التاريخ» من بطولة مجموعة من أشهر نجوم هوليوود. حتى ألمانيا المهزومة أقامت متحفاً للجيش الألماني في مدينة دريسدن، لاستعراض التاريخ العسكري للبلد، بما في ذلك النظام النازي.
واهتمت فيتنام بتوثيق دفاعها المسلح ضد الاحتلال الأميركي بين عامي 1954 و1975، والانقسام بين الشمال والجنوب قبل الهزيمة الأميركية، وإعادة توحيد فيتنام. والمتحف يضم أعمالاً فنية ومعارض وصوراً وأفلاماً توضح التقنيات الفيتنامية في الحرب، وكيف تمكن هذا الشعب الشجاع من الدفاع عن نفسه ضد دولة عظمى، وتحرير البلاد وتوحيدها. ويزور المتحف سنوياً آلاف السياح الأجانب، وبينهم أطفال مدارس فيتنام نفسها الذين يفخرون ببطولات أجدادهم.
لكن الحياة ليست حروباً فقط. وكذلك السياحة. ففي أقصى جنوب الأرجنتين تقع مدينة صغيرة اسمها أوشوايا، تأسست في عام 1884؛ ليس لإيواء السكان في تلك المنطقة البعيدة عن الحضارة، ولكن لإقامة سجن لعتاة المجرمين المحكومين بالأشغال الشاقة. وتم اختيار الموقع لأن أوشوايا جزيرة معزولة يحيط بها بحر شبه متجمد من كل جوانبها، بالإضافة إلى طقس بارد جداً وثلوج تغمرها، بما في ذلك الجبال والغابات التي يستحيل اختراقها. كان أمام المهندسين الذين نفذوا مخطط المدينة شعار «الهروب يحتاج إلى معجزة». ووجد السجناء أنفسهم أمام أشغال شاقة فعلاً، تتمثل بقطع شجر الغابات لتوفير حطب التدفئة، وإنشاء خط سكك حديدية لنقل مستلزمات السجن ونزول الحراس في إجازاتهم، وإيصال الأمور الضرورية، كالبريد البوليسي والملابس والأغذية. ومن أعجب ما في هذا السجن أن الأشغال الشاقة تتضمن – بالإضافة إلى قطع الأشجار ومد السكك الحديدية وفتح الطرق وإقامة شبكة مياه عامة – إقامة حفلة أسبوعية لسكان المدينة البالغ عددهم 500 شخص في عام 1919، يقدمون فيها الموسيقى والغناء! لكن رئيس الأرجنتين في عام 1947 خوان دومينغو بيرون، أمر بإغلاق السجن، ونقل السجناء إلى مراكز اعتقال أخرى، وحوَّل المعتقل إلى متحف يحكي للسياح الذين بدأوا بالتدفق لمشاهدة واحد من أعجب السجون وأقساها، حكاية أوشوايا الحزينة المستلقية على عتبة نهاية الأرض. والطريف أن الزنازين صارت مزارات سياحية ملهمة، بعدما تخلصت المدينة من ماضيها المظلم. وهذا يذكرنا بسجن «ألكاتراز» الأميركي، وهو واحد من أشهر سجون العالم، تم تشييده خلال فترة الحرب الأهلية، وكان مركزاً لإدارة ميناء تابع لوزارة الدفاع الأميركية قبل أن يتحول إلى سجن فيدرالي. وأغلق هذا السجن في عام 1963، وتم تحويله لاحقاً إلى مزار سياحي يذكِّر الناس بأشهر مجرمي العالم الذين كانوا نزلاء فيه.
بعد أكثر من سبعين عاماً من نهاية الحرب العالمية الثانية، ما زالت المدن الأوروبية واليابانية تستذكر تلك الأيام العصيبة، وتُنظم وقفات في تأبين الضحايا والدعوة إلى السلام. لكن مدناً عربية باسلة عانت كثيراً من الحروب، وفقدت آلافاً من أبنائها لا تقيم أي احتفالات أو وقفات لإحياء ذكرى الأطفال والنساء والشيوخ والجنود الذين قتلوا في القصف أو تحت حجارة المباني المنهارة. هل سمعتم عن زيارات سياحية أجنبية لمدن باسلة مثل بورسعيد التي قاتلت المعتدين الإسرائيليين والبريطانيين والفرنسيين، في حرب تأميم قناة السويس عام 1956، من شارع إلى شارع ومن بيت إلى بيت؟ هل سمعتم عن بطولات الجزائريين في حي القصبة بمدينة الجزائر العاصمة ضد الاستعمار الفرنسي قبل التحرير؟ لقد قرأنا في السنوات الأخيرة عن انهيار هذا الحي الذي يعود إنشاؤه إلى أكثر من ألفي عام. ويزور السياح القصبة ليس لدورها فقط في تحرير الجزائر، ولكن أيضاً لمشاهدة تلك المتاهة العجيبة بين أركانها وأزقتها وبيوتها المتعرجة والمتداخلة، عبر سلالم لها بدايات بلا نهايات.
وفي ذاكرة العراقيين مدينة البصرة، شهيدة الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988)، وحرب الكويت (1991) وحرب الاحتلال الأميركي – البريطاني (2003). لقد أمضيتُ أكثر من ستة أشهر في هذه المدينة التاريخية، في تغطية جبهات القتال خلال الحرب العراقية – الإيرانية، وأنا أزعم معرفتي التفصيلية إلى حد ما بهذه المدينة العريقة؛ لأنني نُفيت إليها بسبب أحد مقالاتي في عام 1967، حيث عملتُ في قضاء أبو الخصيب سنة كاملة، وأنا طالب في قسم الصحافة بكلية آداب جامعة بغداد. وهذا القضاء بالذات كان مساحة من جنات الله في الأرض؛ غابات نخيل وسدر وكروم على ضفاف شط العرب. وفي هذا القضاء وحده كانت أكثر من عشرة ملايين نخلة، ويعرف الأشقاء الكويتيون ماذا كانت تعني البصرة وأبو الخصيب والزبير لهم. لقد حاربت البصرة الإيرانيين ثم الأميركيين والإنجليز من بستان إلى بستان، ومن نخلة إلى أخرى، وفقدت غابات النخيل ملايين من أشجارها، حتى تحولت منطقة الفاو في أقصى جنوب العراق عند حافات الخليج العربي إلى مقبرة للجنود والنخيل، وكلهم ماتوا وقوفاً.
الحديث ليس عن الماضي، ولكن عن الحاضر؛ حيث صور خميني وخامنئي والأعلام الإيرانية تصدم عيون أهل البصرة الأصلاء كل صباح في الشوارع، وعلى بنايات تحتلها ميليشيات إيرانية التنظيم والتمويل والتسليح. هل يستطيع أحد من «البصاروة» اليوم أن يحتفل ببطولات آبائه وإخوانه في حرب الثماني سنوات؟ أنا متأكد أنه سيأتي اليوم الذي تصبح فيه البصرة والموصل وسجن أبو غريب مزارات سياحية لكل من قرأ عن الحرب التي أكلت البشر. وسنرى مزارات سياحية أخرى في سوريا ولبنان وليبيا والسودان واليمن، تروي كيف تنتحر بعض الدول.
aawsat