أندرياس كلوث: الفوضى تضرب المشهد السياسي الأوروبي
عند إلقاء نظرة سريعة على الخريطة السياسية للاتحاد الأوروبي، يظهر ما يبدو أنه حالة من الفوضى. ففي كل مكان تقريباً، تتدافع أحزاب نحو دخول البرلمانات، في الوقت الذي تتفسح التكتلات القديمة على اليمين واليسار. وأصبحت بعض المجالس، خصوصاً داخل البرلمان الأوروبي، مثيرة للحيرة، بقدر ما كان البرلمان الألماني في ظل جمهورية فايمار، الذي ضم بين جنباته 14 حزباً على الأقل، وكانت الائتلافات الحاكمة آنذاك غير متناغمة هشة قصيرة الأمد؛ وجميعنا نعلم ما حدث بعد ذلك.
السؤال الآن: هل يتحرك الاتحاد الأوروبي بهذا الاتجاه؟ من الناحية السطحية، ربما يبدو كذلك، بالنظر إلى أن 6 دول أعضاء بالاتحاد تجري إدارتها من جانب حكومات أقلية، بينما تخضع اثنتين أخريين لإدارات لتصريف الأعمال، منها إسبانيا التي من المقرر أن تعقد رابع انتخابات بها في غضون 4 سنوات في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. كما نجد أن النمسا تخضع لإدارة مجموعة من البيروقراط، في انتظار عقد انتخابات في 26 سبتمبر (أيلول) الحالي. ومن بين الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي 12 لديها اسمياً ائتلافات فاعلة، لكن بعض هذه الائتلافات (ألمانيا وإيطاليا) غير طوعية، أو في حالة بائسة أو غريبة الأطوار. أما مجلس العموم التابع للمملكة المتحدة، فينتمي إلى فئة خاصة بها، ويعد التوصيف الأمثل والألطف له أنه في حالة سيولة.
ومن ناحية أخرى، وسعياً منهم لإظهار سخطهم إزاء الهياكل السياسية القديمة، تشهد الفترة الحالية انسحاب بعض السياسيين الأوروبيين الأصغر سناً من أحزابهم، وتأسيسهم أحزاباً جديدة. وقد فعل ذلك إيمانويل ماكرون في فرنسا. وفي 16 سبتمبر (أيلول)، أعلن ماتيو رينزي أنه سيفعل الأمر ذاته في إيطاليا.
وبالنظر إلى أعداد الائتلافات الهشة وحكومات الأقلية والأزمات السياسية، يبدو أن غياب الاستقرار أصبح العرف السائد الجديد. ومع ذلك، يبقى هناك سبيل آخر أكثر تفاؤلاً يمكن النظر من خلاله إلى هذه التوجهات.
مع اكتساب المجتمعات الأوروبية قدراً أكبر من التعددية والتنوع، يتكرر الأمر ذاته على المشهد الحزبي بها، الأمر الذي يزيد صعوبة بناء ائتلافات. وبمرور الوقت، من المحتمل أن يؤدي ذلك إلى إضعاف الهياكل الحزبية، مع رفع مكانة البرلمانيين الأفراد في الوقت ذاته. وربما تحل قدرات التفكير المنطقي والبلاغة والضمير الفردي للمشرعين تدريجياً محل الهياكل الحزبية الجامدة، بوصفها المحرك الرئيسي وراء عملية صناعة السياسات.
وبطبيعة الحال، ينبع السبب الرئيسي من خوف التمزق من صعود أحزاب شعبوية على أقصى اليمين وأقصى اليسار. إلا أنه عند إمعان النظر، نجد أن الشعبويين ربما أوشكوا على بلوغ الحد الأقصى لإمكاناتهم، أو حتى بلغوا ذروتهم. وإذا رغبت في دراسة حالة، يمكنك التعمق في ولايتي براندنبورغ وساكسونيا.
عقدت كلتا الولايتين انتخابات هذا الشهر، وخرجت العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام تصرخ من أن حزباً يمينياً شعبوياً فاز، مما دفع بأحزاب التيار الرئيسي في قلب أزمة جديدة. وجاء ذلك لأنه مقارنة بالانتخابات السابقة التي أجريت عام 2014، كان حزب «البديل من أجل ألمانيا» صاحب المكسب الأكبر من الانتخابات: في ساكسونيا، ارتفعت أعداد الأصوات التي حصدها بنسبة 8 نقاط، لتصل إلى 27.5 في المائة، بينما زادت في براندنبورغ بـ11 نقطة، لتصل إلى 23.5 في المائة.
ومع هذا، ثمة صورة مختلفة تظهر عندما نحصي ببساطة الأرقام المطلقة للأصوات؛ داخل كل من براندنبورغ وساكسونيا، نجد أن أعداداً أقل من الأفراد صوتوا لصالح «البديل من أجل ألمانيا» هذه المرة عن الانتخابات الإقليمية الأخيرة عام 2017، وفي بافاريا وهسن وبريمن. ومن جانبه، يعتقد مانفريد غيلنر، الخبير الألماني البارز بمجال استطلاعات الرأي، أن «البديل من أجل ألمانيا» بلغ الذروة، وسيبدأ منحنى شعبيته في الهبوط.
أما التوجه الأكبر، التشرذم، فقد بدأ قبل صعود الشعبويين. على سبيل المثال، نجد أنه في ألمانيا الغربية خلال سبعينات القرن الماضي، اتجه نحو 80 في المائة من الناخبين باتجاه واحدة من كتلتين ضخمتين: الديمقراطيين المسيحيين «السوداء» في يمين الوسط، والديمقراطيين الاشتراكيين «الحمراء» في يسار الوسط. وبدأت هذه النسبة في التراجع خلال الثمانينات. والآن، وصلت النسبة إلى 40 في المائة، ويبدو أنها ستستمر في الانخفاض، مع تفضيل مزيد من الأفراد لأحزاب أصغر أو أحدث، مثل الليبراليين «الصفر» أو الشيوعيين السابقين «الأرجوانيين» أو الخضر البيئيين.
وعند النظر إلى التوجهين معاً – التشرذم المستمر في ظل وجود شعبويين مقيتين – يتضح لنا أن هذا الوضع سيجعل الائتلافات بالضرورة أكثر تنوعاً وغرابة. ومن جانبهما، توشك براندنبورغ وساكسونيا على تشكيل حكومتين تتألفان من أحزاب بألوان الأسود والأحمر والأخضر، على غرار ألوان العلم الكيني. ورغم أن هذه الأحزاب تجمع بينها خصومة شديدة، فإنها تعمل على توحيد صفوفها اليوم في مواجهة الشعبويين. أما ألمانيا في مجملها، فمن الممكن أن يزدان مشهدها السياسي قريباً بألوان علم جامايكا، وذلك بظهور ائتلاف أسود وأخضر وأصفر.
وتعكس هذه الائتلافات المتنوعة من الداخل على نحو متزايد مجتمعات متنوعة. جدير بالذكر أنه في سبعينات القرن الماضي، انتمت غالبية الأوروبيين إما إلى الطبقة العاملة والمثقفين أو الطبقة الوسطى وأصحاب الأعمال.
اليوم، ما يزال هذا النطاق اليساري – اليميني قائماً، لكن تغطيه طبقات أخرى: حضري – ريفي، صغير – كبير، مؤيد – معارض للهجرة، مؤيد – معارض للعولمة.
والملاحظ أن ثمة قضايا جديدة مثيرة للانقسام تعصف بصفوف جميع الأحزاب، مثل التغيرات المناخية أو الذكاء الاصطناعي والميكنة. وفي بعض الأحيان، تظهر قضية واحدة، مثل «بريكست»، تخيم بظلالها على جميع القضايا الأخرى.
وفيما يخص الأوروبيين، خصوصاً الألمان، يبدو المشهد السياسي الحالي شبيهاً بما كان عليه الحال في ظل جمهورية فايمار، وبالتالي يثير الفزع. جدير بالذكر أنه سعياً وراء تجنب «بلقنة» البرلمان، أجازت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية صراحة في دستورها إنشاء أحزاب، وأقرت نسبة 5 في المائة من الأصوات لاجتياز عتبة البرلمان.
وفي المقابل، هناك أوروبيون آخرون، مثل الدنماركيين، يبدون تفاؤلاً أكبر إزاء ظاهرة التشرذم السياسي. والمعروف أن الدنمارك متعايشة منذ أمد بعيد مع حكومات أقلية. ومع هذا، لا يوجد تشابه بينها وبين جمهورية فايمار.
وفي الواقع، هناك تقليد فلسفي قديم يقودنا إلى نتيجة مغايرة تماماً، مفادها أن التشرذم ظاهرة مرحب بها لأنها تخدم الديمقراطية. على سبيل المثال، أعرب الفيلسوف جيمس ماديسون في كتابه «أوراق فيدرالية» عن قلقه من وجود عدد ضئيل للغاية من الأحزاب، وليس الكثير منها.
جدير بالذكر أنه في ظل المشاهد الحزبية المتشرذمة، يتحول عبء الديمقراطية من كوادر الحزب إلى الممثلين المنتخبين أنفسهم، وتصبح الائتلافات سائلة، ويجري تشكيلها لأغراض بعينها. ويعني ذلك أن أعضاء البرلمان سيتعين عليهم التصدي للمشكلات الصعبة، وطرح حججهم، والإنصات للبدائل، وأخيراً التصويت داخل البرلمان بما تمليه عليهم ضمائرهم. ويظل في مقدور الناخبين دوماً طردهم في الانتخابات التالية.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»