د. فاطمة الصايغ : أوروبا والعالم الإسلامي تصادم وتعاون
كان فتح المسلمين لإسبانيا متصلاً في الكثير من جوانبه بسياسة الفتوح التي تبناها المسلمون وكذلك الظروف السياسية والاجتماعية والدينية التي عاشتها أوروبا في القرون الوسطى. وعلى الرغم من كل الجدل الذي أحاط بالفتح الإسلامي في أوروبا إلا أن قضية وصول المسلمين إلى إسبانيا والوجود الإسلامي في الأندلس لأكثر من ثمانية قرون تظل نقطة مضيئة في تاريخ الطرفين، فقد أضاءت الحضارة العربية الإسلامية لأوروبا طريق النهضة والتحضر عن طريق نشر العلم والترجمة والثقافة والفنون بأشكالها وجعلتها أكثر تهيئة لذلك الزخم الحضاري الذي سوف تشهده لاحقاً، وجعلت العلاقة بين العرب وأوروبا أنموذجاً تاريخياً يستحق الدراسة.
إن الدارس للمجتمع الأندلسي قبل الفتح الإسلامي يرى مجتمعاً فيه الكثير من التنافر والطبقية ونبذ الآخر، الأمر الذي أوجد مجتمعاً خالياً من التجانس والانتماء. كانت الطبقية والفوقية حاضرتين بجميع أشكالهما، فقد تمتع الملوك بسلطة مطلقة، كما تمتع رجال الدين في ذلك المجتمع بقدر وافر من النفوذ والسلطة، الأمر الذي أثقل كاهل الطبقات الوسطى والدنيا بالضرائب والالتزامات المالية. كما كان تواجد الطوائف غير المسيحية غير مرحب به بسبب غياب سياسة التسامح الديني وتقبل الآخر. وجاء الفتح الإسلامي للأندلس، وهو نتيجة لخطة نوقشت على أعلى مستوى بين الخليفة الأموي في دمشق وبين قادة الفتح، وبعد أن درست نتائج تلك الحملات سياسياً وعسكرياً على العالم الإسلامي وجواره تم إرسال الحملات، ونجح المسلمون في فتح الأندلس ليبدأ عصر جديد للطرفين: عصر مبني على التبادل والتعاون أحياناً وعلى التصادم أحياناً أخرى.
كتب الفتح الإسلامي لإسبانيا صفحة جديدة في حياتها العامة ونظمها الاجتماعية وميراثها الثقافي وقيمها الاجتماعية وريادتها ضمن المنظومة السياسية الأوروبية. فقد حمل المسلمون لإسبانيا الكثير من التطور المادي والقيم الإنسانية منها العدل والحرية والمساواة، الأمر الذي خفف من سيطرة الطبقات العليا والإقطاعية ورجال الدين، الأمر الذي أدى إلى تمتع أهل البلاد والطوائف المقيمة بالحرية والرخاء. وشهدت إسبانيا انتعاشاً اقتصادياً وتجارياً نتيجة توافد الكثير من المهاجرين العرب. كما حمل المسلمون معهم من الشام تراثهم الثقافي من حب العلوم والفنون والموسيقى، الأمر الذي هيأ للأندلس لكي تكون منارة إشعاع في أوروبا كلها.
ولقرون تزعمت إسبانيا حركة النهضة في أوروبا وكتب لأهل الأندلس أن يكونوا رواد العلم والحضارة والثقافة في أوروبا والعالم بأسره. فكم من اختراع علمي تبناه علماء الأندلس وكم من نظرية فكرية تولدت من نتاج نقاشات علماء الأندلس، هذا الأمر أثرى الواقع الثقافي والعلمي ليس فقط في الأندلس ولكن في أوروبا بأسرها، وكتب لأوروبا أن تدخل عصراً جديداً من الكشوف الجغرافية والنهضة الصناعية والفكرية من جراء التلاقح الحضاري مع علوم العرب والمسلمين والاستفادة منها.
وعلى الرغم من كل تلك العلاقات بين الطرفين إلا أن العرب والمسلمين أيضاً لا يمكنهم محو تلك الصفحة من أذهانهم وهي الصراع والتصادم اللذان مرت بهما العلاقة بين أوروبا والمسلمين إبان الحروب الصليبية التي أسفرت عن صراع تاريخي بين الطرفين ومن ثمة سقوط آخر إمارة إسلامية في الأندلس وهي إمارة بني الأحمر في غرناطة، فعلى الرغم من أن الحضارة والثقافة جمعتهم إلا أن الدين والسلطة فرقتهم.
قرون مضت، وتاريخ تبدل، وأوضاع سياسية تغيرت وأمم ضعفت وأخرى برزت، ولا تزال مساهمة العرب والمسلمين للحضارة العالمية تذكر أينما حلت وكيفما كانت، ولكن شيئاً واحداً لا يزال حاضراً في الذاكرة: لا تزال أوروبا مدركة بأنها أفضل حالاً اليوم بفضل تلك الفترة التي عاشتها تحت ظل العرب والمسلمين وبأن تقدمها العلمي والحضاري يستمد جذوره من جذوة الحضارة الإسلامية، فلولا تلك الحقبة لما استطاعت إسبانيا والبرتغال اليوم جذب الملايين من السياح إلى أرضهما ولولا تلك الحقبة لما دخلت أوروبا في سباق حضاري مع الأمم الأخرى في الريادة الحضارية.
إن أوروبا الموحدة اليوم تجد نفسها وهي تحتضن الملايين من المسلمين المهاجرين والوافدين إليها من جميع أنحاء العالم إنما تحاول التأقلم مع ماض لا يزال ممتناً للعرب والمسلمين، وحاضر يحاول التأقلم مع متغيرات سياسية وحضارية مؤلمة وتيارات متطرفة ترفض الاعتراف بالآخر، ومستقبل فيه الكثير من التحديات الحضارية، وعلى الرغم من ذلك كله إلا أنها لا تزال تعتبر نفسها منصة حضارية وثقافية تزهو بماض مرتبط بجواره العربي والإسلامي.
* جامعة الإمارات
المصدر : البيان الاماراتية