فرنسا: ثورة اليمين المتطرف المضادة تزحف إلى عالم الثقافة
في مقدمة كتابه «عناصر من أجل ثقافة مضادة قومية» يكتب فيليب فاردون؛ أحد أطر حزب اليمين المتطرف في فرنسا وزعيم «كتلة الهوية»: «طبول الحرب الثقافية تقرع على أشدها، النخبة المهيمنة تقود هجمة شديدة ضد الثقافة الفرنسية؛ لغتها، تاريخها، مدارسها… وفي المقابل، فإن المقاومة تنتظم…». هكذا يلخص هذا المسؤول وجهة نظر التيار المتطرف إزاء القضايا الثقافية في كلمتين: «مواجهة» و«حرب». والواقع أنه في كل مرة شهدنا فيها تصاعد التيارات اليمينية سواء في فرنسا وإيطاليا والنمسا أو غيرها من الدول الأوروبية، لاحظنا نمو خطاب شعبوي يدعو «لاستعادة الأرض» في إطار ثقافة مضادة أو «بديلة» ترى أنه على المثقف الاضطلاع بدور قيادي، بل والخوض في صراع آيديولوجي مع النظام أشبه بـ«حرب خنادق» يكون فيها المجال الثقافي بمثابة «ساحة للقتال» والهدف هو الوجود على كل الجبهات: المكتبات، والدور، والجامعات، والمسارح، ووسائل الإعلام… إلخ، للفوز بالمعركة الثقافية.
العامل المشترك بين جميع تيارات اليمين المتطرف خطابها المعادي للنخبة الثقافية، التي تعدها مسؤولة بتواطئها مع النظام عما تسميه «ضياع الهوية» بسبب التعددية الثقافية. وفي المقابل، فإن الكتّاب الذين يحظون باهتمامها وتعدهم من «المفكرين الكبار» غالباً ما يكونون من المهمشين بسبب مواقفهم المتطرفة القائمة على مشاعر الحقد أو ماضيهم الملطخ بوصمة العمالة والخيانة. مؤلفات شارل موراس، وبيار درو دولاروشال، وفريديناند سيلين… وآخرين، ممن يعدون من أعلام المرجعية الأدبية لليمين المتطرف، محظورة في محافل التكريم الأدبية وممنوعة في المدارس. إدراج اسم شارل موراس، الكاتب الموالي لنظام الجنرال بيتان، ضمن لائحة التكريمات الرسمية لـ2018 أحدث ضجة كبيرة جعلت وزيرة الثقافة فرنسواز نيسن تقدم بنفسها اعتذاراً وتسحب اسمه من قائمة الكتاب المكرمين.
هذا لا يعني أن هذه النوعية من الكتب غائبة عن الأسواق، بل هي موجودة لكنها توزع تحديداً داخل شبكة من المكتبات المعروفة بولائها لهذا التيار. فرنسا تحوي عددا كبيرا منها قيمتها جمعيات محاربة العنصرية ومعاداة السامية بأكثر من 120 كتابا. علماً بأن كثيرا منها ينشط بصفة سرية وعبر الشبكة لأن بعض الكتب محظورة لمخالفتها قوانين النشر. الباحث جان إيف كامو في دراسته، التي خصصها لليمين المتطرف وثقافته المضادة، يؤكد أن العدد، وإن بدا ضئيلاً، إلا إنه يبقى الأهم في دول أوروبا الغربية.
أشهر هذه المكتبات موجودة في باريس كمكتبة «فاكتا» التي أصبحت منذ يونيو (حزيران) الماضي تنشط عبر شبكة أسسها صحافي سابق من صحيفة «لوفيغارو»، وهو يقدمها على أنها «مكتبة منشقة وبديلة». فهرس هذه المكتبة مهم، ويضم نحو 20 ألف مؤلف معظمها حول تمجيد الأدب الفاشي، وكتاب فرنسا الفيشية أمثال شارل موراس، وروبرت برازيلاك، ولوسيان روباتي.
تليها مكتبة «أونكر» التي تعمل دار نشر أيضاً أسسها جيل سولاس؛ الإطار في حزب الجبهة الوطنية، عام 1996، وهي متخصصة في تاريخ النازية وإنجازات زعيمها ومعاداة السامية. إضافة لمكتبة «دوكان ديفيزيون» التي تعرف إقبالا كبيرا في باريس، حيث نجد بموقعها على الشبكة هذا الشعار الذي كتبه مؤسسها: «الكفاح الحقيقي يجب أن يُخاض في ميدان توزيع الكتب. أعتقد أن الخلوة التي تجمع الشخص بكتاب وحدها قادرة على تنوير من يخطأ عن جهل بالوقائع… في المكتبات الأخرى تجدون ماركس ومالرو وأراغون، هنا ستجدون راسباي وموراس وفولكوف».
فهرس المكتبة يضم 10 آلاف كتاب معظمها يتناول موضوعات عن الإسلاموفوبيا، أخطار العولمة وموضوعات تاريخية ودينية. على أن بيع الكتب ليس النشاط الوحيد لهذه المكتبات؛ فهي تحيي بانتظام قراءات بحضور شخصيات أدبية لمناقشة موضوعات الكتب التي تهم هذه النوعية من الجمهور. وما يلاحظه الجامعي جان إيف كامو في دراسته «الثقافة المضادة لليمين المتطرف في فرنسا» هو أنه مهما اختلف حجم نشاط هذه المكتبات، فإنها لا تعرض أبدا أعمالاً تروج لآيديولوجيات معاكسة لها ولا تحوي في رفوفها ما ينتقد نظريات اليمين المتطرف على الإطلاق.
هذه الثقافة المضادة تنتشر أيضاً بواسطة جمعيات ثقافية تنشط لإحياء ورد اعتبار ذكرى الكتاب المعروفين بانتماءاتهم السياسية المتطرفة، خصوصا من يسمون «كُتاب فرنسا الفيشية» سواء بتنظيم أمسيات أدبية أو بيع كتب أو عروض مسرحية؛ أهمها «جمعية أصدقاء الكاتب روبرت برازيلاك» و«جمعية أصدقاء سيلين».
النشاط يمتد لمجال النشر، حيث توجد عدة مؤسسات تنشط في هذا السياق. ملحق خاص لمجلة «ليفر» كان قد نشر قائمة بأهمها ملخصاً عددها لـ39 ناشرا، علما بأن كثيرين يلجأون إلى ما يسمى «النشر الذاتي»، وأهمها دار نشر «شيري»، التي يديرها الصحافي الكاتب جان أوغوي المنخرط في صفوف «الجبهة الوطنية»، وهي مؤسسة مزدهرة اتخذت من مدينة بواتييه بوسط غربي فرنسا مقراً لها، وسجلت أرباحاً وصلت لمليوني يورو، حسب آخر أرقام سجل الشركات. وهي تنشر المجلة الشهرية «قراءات فرنسية» التي تبيع أكثر من 10 آلاف نسخة، وكذلك مجلة «قراءات وتقاليد» (5 آلاف نسخة). وملف زبائنها، حسب الباحث جان إيف كامو، يضم أكثر من 40 ألف اسم وتنشر نحو 4 آلاف مؤلف؛ ابتداءً بكتب الأطفال، كمجموعة «القصة القصيرة لفرنسا» الموجهة للأطفال بين العاشرة والسادسة، والتي تسحب بأكثر من 250 ألف نسخة من مؤلفات تاريخية ودينية. إضافة لدار نشر «نوفيل إيديسيون لاتين» الأقدم في هذا المجال؛ إذ إنها تنشط في مجال النشر منذ 1928 وهي معروفة بأنها أول دار نشر تطبع الترجمة الفرنسية لكتاب «كفاحي» لأدولف هتلر، وتنشر نحو ألفي مؤلف وأربع دوريات.
– «دار بوند» بالخلطة الفرنسية
عالم الكتب ليس المجال الوحيد الذي يحلم اليمين المتطرف باكتساحه وإحداث ثورة فيه. فيليب فاردون زعيم «كتلة الهوية» يرصد في كتابه عناصر من أجل ثقافة مضادة قومية، وهي كما يقول: «كل الأعمال التي يعدها متفقة مع آيديولوجيته في الفن والمسرح والشعر وحتى القصص المصورة. الهدف هو الوصول لإنعاش الحياة الثقافية مع ما يتفق والإيديولوجية الفاشية على غرار ما يفعله الجيران الإيطاليون مع الـ«لاكازا بوند» أو «دار بوند»، التي سميت نسبة للشاعر الأميركي إيزرا بوند، الذي التحق بالفاشيين وأقام في إيطاليا إلى غاية موته. وهي الجمعية التي أسُست عام 2003 على أنها حركة ثقافية اجتماعية ذات توجه فاشي. وسجلت لغاية الآن انخراط أكثر من 10 آلاف شخص، وهي ترعى عدة تظاهرات ثقافية فنية مستقطبة حولها حشدا كبيرا من الشباب، مقصية منها كل الأجانب أو المسلمين. الجمعية تشرف على فرق موسيقية، ونواد للرسم والمسرح، ودار نشر، ومختبر أفكار أو «تينك تانك» وحتى مدرسة خاصة بها. شعبيتها بين أوساط الشباب ساعدت مرشحي اليمين المتطرف في الفوز بالاستحقاقات الإيطالية. بعض قادة التيار اليميني في فرنسا حاولوا تطبيق مبادئ «لاكازا بوند» في فرنسا حيث بدأوا بفتح ما تسمى «مراكز ثقافية اجتماعية».
وبعض النماذج شهد النور في السنوات الأخيرة: أهمها «مركز لو باستيوون سوسيال» المعروف بنشاطاته الاجتماعية التي يقصى منها الأجانب والمسلمون. ويشارك سنوياً «لاكازا بوند» في تنظيم ندوات أوروبية لتكريم أعمال شخصيات فاشية ومناقشة موضوعات تدور حول إشكالية الهوية والتراث الوطني. على أن الجزء الأعظم من النشاط يتم عبر الشبكة العنكبوتية، العدد المهم للمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي التي تنشطها شخصيات من هذا التيار في ازدياد مستمر. أهمها قناة الكاتب ألان سورال التي تجمع نحو 100 ألف مشترك، وتسجل صفحته على «فيسبوك» اشتراك 170 ألف شخص (قبل أن تغلق في ديسمبر/ كانون الأول 2017»، إضافة لدار النشر التي أطلقها على الشبكة باسم «كونتر كولتور» وموقع لبيع الكتب. أما الكاتب جان إيف لوغالو الذي كان مسؤولا سابقاً في حزب «الجبهة الوطنية»، فقد ترك، كما يكتب ديفيد دوسي ودومينيك ألبرتينيي في كتابهما «الفاشوسفير… كيف نجح اليمين المتطرف في الفوز بمعركة الإنترنت»، المعركة الانتخابية ليخوض المعركة الثقافية… وأقل ما يمكن قوله هو أنه «يخوضها بشراسة». وقد أنشأ لوغالو منظمة «بوليميا» التي تنشط بوصفها مختبرا للأفكار، وقناة تلفزيونية مع الروائي رونو كامو، وإذاعة، وموقعاً على الشبكة.