لاتفيا: شعب أوروبا “الانطوائي” في بلد يحتاج إلى مهاجرين
يُنتقد شعب لاتفيا بسبب ميل ثقافة أبنائه نحو الإنطواء، لكن هل يمكن لهذه السمة الشخصية أن تكون مفتاحاً لهويتهم الإبداعية أيضا؟
في كتاب ساخر صدر عن منظمة الثقافة اللاتفية وعُرض في معرض لندن الأخير للكتاب، تبتسم الشخصية الرئيسية ابتسامة نادرة لإدراكها أن الطقس في الخارج على ما يرام. وهو ما يعني أن الثلوج تتساقط بغزارة. وهكذا فهو لا يستطيع أن يلتقي بأحد على قارعة الطريق. وكما يقول: "تحت الصفر، يعني أقل من المجازفة من أجل لقاء عشوائي".
السخرية جزء من أدبيات حملة تنظم في لاتفيا بعنوان "أنا انطوائي"، للاحتفال والسخرية بطريقة مفعمة بالحب من نمط المحافظة الاجتماعية، الذي ترى فيه أنيتا كونستي، الكاتبة اللاتفية التي صممت الحملة، أنه يمثل شعبها خير تمثيل.
وتقول: "لا أعتقد أن حملتنا تنطوي على تضخيم أو مبالغة على الإطلاق. في الواقع هي أسوأ من ذلك!".
وقد أدركت ما كانت تعنيه بمجرد وصولي إلى لاتفيا، الدولة التي تقع على بحر البلطيق. كان السير في اليوم الأول لوصولي إلى ريغا عاصمة لاتفيا يختلف عن السير في أي عاصمة أوروبية أخرى. إذ كانت التجربة أكثر هدوءاً ووداعةً.
برزت الشمس ساطعة بينما كنت أسير على مهل متجهاً إلى حديقة كرونفالدا حيث كان مصدر الضجيج الوحيد هو صوت السيارات المارة وثرثرة السائحين. وعندما رأيت بعض اللاتفيين يسيرون معاً، كانوا في الغالب يفعلون ذلك بصمت وبوجود مسافات بين بعضهم البعض. شعرت أن هؤلاء ليسوا أكثر الناس انفتاحاً من ناحية اجتماعية.
مصدر الصورةREINIS HOFMANISImage captionأظهرت الدراسات أن هناك علاقة بين الانطوائية والإبداع، وهو الأمر المهم للهوية المميزة لشعب لاتفيا
تعزز هذا الشعور أثناء رحلة بالقطار استغرقت ساعة كاملة من ريغا إلى سيجولدا. وبينما كنا نسرع متجهين إلى الشمال الشرقي عبر غابات الصنوبر الكثيفة، كنا أنا وأصدقائي نطري على المناظر الجميلة ونلعب لعبة مسابقات وألغاز، وكان يأخذنا السرور إلى حالة من النشوة حيث كنا نصرخ بالإجابات عندما أدركنا أننا الوحيدين الذين نتكلم في تلك العربة من القطار.
لكن لماذا تتسم غالبية اللاتفيين بالاتجاه المحافظ، على الأقل في البداية؟ لا توجد إجابة قاطعة، لكن الدراسات أظهرت وجود علاقة بين الإبداع وبين تفضيل العزلة.
وقد رأت كونستي هذا الأمر للوهلة الأولى من خلال عملها، وهي في الحقيقة تعتقد أن الانطواء يتعمق بشكل خاص بين أولئك الذين يعملون في مجالات إبداعية، مثل الكتاب والفنانين والمعماريين. وترى عالمة الاجتماع اللاتفية أن الإبداع مهم للهوية اللاتفية الذاتية.
والإبداع يشكل أولوية في خطط التطوير الاقتصادي و التعليمي للحكومة في لاتفيا. وتذكر تقارير المفوضية الأوروبية أن لاتفيا لديها واحداً من أعلى المعدلات في سوق العمالة المبدعة في الاتحاد الأوروبي.
وغالباً ما يعيش اللاتفيون حالة استنكار ذاتي لثقافتهم التي تميل إلى الانطوائية، وهو نوع من الشخصية التي تصبح بسهولة محفزة بطريقة مبالغ فيها وتفضل العزلة والهدوء والتفكر. الأمثلة كثيرة من إحدى ضواحي العاصمة ريغان، وهي سوليتيود، حيث تلحظ بسهولة الكثير من العادات المتأصلة في لاتفيا، مثل عدم التبسم في وجه الغرباء.
عندما انتقل المرشد السياحي فيليب بيرزوليس إلى لاتفيا عام 1994، كان مندهشاً لرؤية بعض اللاتفيين يعبرون الشارع لمجرد أن يتجنبوا المرور بجوار شخص آخر.
ويقول: "لاحظت أن الناس يتخذون هذه القرارات المتعلقة بكيفية تجنب بعضهم البعض مسبقاً قبل مسافة 5-10 أمتار".
حتى مهرجان الأغنية والرقص اللاتفي – والذي هو عبارة عن احتفال كبير يجمع أكثر من 10 آلاف مغن ومغنية من جميع أنحاء البلاد- يظهر علامات للانطوائية من حيث أنه يقام كل خمس سنوات فقط. واقترح بيرزوليس مازحاً أنه إذا لم ينظم المهرجان كل خمس سنوات فسيكون هناك إجهاد كبير، معلقاً بأن هذا النوع من التجمع يشكل استثناءاً وليس قاعدة في الثقافة اللاتفية.
مصدر الصورةGETTY IMAGESImage captionجستين فيرنيرا: "في لاتفيا، عدم الاستمرار في المحادثة طوال الوقت ليس أمراً محرجاً أو من الوقاحة"
وضربت كونستى مثالاً آخر حول ميل مواطنيها إلى الانطوائية. ففي المباني السكنية "من المتأصل في اللاتفيين أن ينتظروا قليلاً حتى يغادر جارك الردهة، وبعدها تستطيع أنت المغادرة لتجنب إحراج إلقاء التحية"، كما أخبرتني.
لكن تجنب المحادثات القصيرة لا يعني أن اللاتفيين باردون. فبعض المسافرين الصامتين في القطار الذين التقينا بهم أنا وأصدقائي كانوا سريعين في إبداء المساعدة عندما كنا نحاول قراءة إحدى الخرائط.
وكما أوضح جستين فيرنيرا، المترجم والصحفي من مدينة يمتد تاريخها إلى العصور الوسطى تسمى كيسيس شمال شرقي لاتفيا: "في لاتفيا، عدم الاستمرار في المحادثة طوال الوقت ليس أمراً محرجاً أو من الوقاحة. فالشخص الذي يتكلم طوال الوقت ولا يصمت من وقت لآخر ينظر إليه على أنه متعجرف".
وبينما يعتبر من الصعب للزائر الجديد ألا يلقي بالاً للعادات المحافظة لشعب لاتفيا، فإن الكثيرين من أبناء الشعب اللاتفي يقولون إن ثقافتهم هذه ليست الوحيدة التي يتصرف فيها الناس بانطوائية. حيث يعتقد بيرزوليس أن السويديين يميلون إلى العزلة الشخصية والمحافظة على مسافة بينهم وبين الآخرين أكثر من اللاتفيين، بينما تشير كونستي إلى أن الفنلنديين أيضاً انطوائيون للغاية.
وتعلق إيفيلينا أوزولا من مؤسسة "فاين يونغ أوربانيستس"، وهي شركة تخطيط عمراني في لاتفيا، بالقول: "من ناحية الانطوائية، في الواقع نحن لا نختلف عن شعب استونيا".
ومن المهم أيضاً أن نتذكر أن اللاتفيين ليسوا متجانسين. فهناك أقليات كبيرة من الروس وغيرهم في لاتفيا، يتفاوتون في درجة الاندماج اللغوي والثقافي. وهناك أيضاً اختلافات بين الأجيال بين أولئك الذين ترعرعوا في حقبة الرقابة الشديدة، وأساليب الحياة المفروضة فرضاً إبان حقبة الاتحاد السوفيتي، وجيل أصغر ترعرع في ظل الرأسمالية والتنوع المدني والثقافي.
ولهذا فمن المستحيل الحديث عن عادات ثقافية موحدة تشمل الجميع، مع أن القيمة التي تحملها مسألة العزلة الشخصية يشترك فيها كل الأجيال.
أحد الدلائل على الطابع المحافظ للاتفيين يكمن في البنية الطبيعية للبلاد وعلى وجه التحديد كثافتها السكانية المنخفضة، وغاباتها الخصبة.
مصدر الصورةGETTY IMAGESImage captionيعرب الكثير من أبناء شعب لاتفيا عن حبهم العميق للطبيعة ويضفون رومانسية على مساكن المزرعة التقليدية.
وتقول أوزولا: "اللاتفيون ببساطة لم يعتادوا على رؤية الكثير من الناس الآخرين. ومن المستغرب تماماً أن تنتظر لفراغ طاولة في مطعم، أو أن تجلس قريباً جداً من أشخاص آخرين عند تناول الطعام. فهناك متسع كاف في البلاد للمحافظة على مسافة بينك وبين الآخرين".
ومن الشائع حتى لسكان الحضر اللاتفيين عشق الطبيعة، وزيارة الريف بانتظام. وهناك طابع رومانسي يتعلق بمسكن المزرعة التقليدية في لاتفيا: وهو بناء ريفي معزول ومبني في العادة من الخشب ومساحته تتسع فقط لسكانه.
وتعد تلك المساكن التقليدية متأصلة في مبادئ الثقافة اللاتفية، وقد جُمعت تلك المبادئ في قائمة من 99 عنصرا، ويعتبرها الناس أهم شيء في لاتفيا. (يوجد أيضاً في هذه القائمة العناية بالمقابر، وتناول خبز الجاودار الذي تشتهر به لاتفيا).
وأشارت أوزولا إلى أنه على الرغم من اندثار مساكن المزرعة التقليدية في القرن العشرين، مع دفع النظام السوفيتي لتطبيق الشيوعية، إلا أن الارتباط الثقافي بصورة مساكن المزرعة استمر بلا انقطاع، وتضيف: "بين 1948 و 1950، تراجعت نسبة مساكن المزرعة في جميع أنحاء البلاد من 89.9 في المئة إلى 3.5 في المئة فقط، وهكذا، تم القضاء فعلياً على أنماط الحياة التقليدية".
لكن فيرنيرا لاحظ أن الاكتفاء الذاتي ما زال جزءا من الهوية اللاتفية، ويقول فيرنيرا: "ما زال لدينا هذا النوع من التفكير المتعلق بمسكن المزرعة المنفرد المكون من بيت واحد: نحن لا نتجمع في مقاه خلال ساعات اليوم، ولا نتحدث مع أناس لا نعرفهم في الشوارع".
وهناك تغير آخر باتجاه العيش في شقق صغيرة نسبياً. فقد أخبرتني أوزولا بالقول: "لاتفيا مأهولة بطريقة غير متناسبة، حيث يعيش الناس بقرب بعضهم البعض في المراكز الحضرية".
وأشارت إلى أنه على الرغم من كونها واحدة من أقل البلدان الأوروبية سكاناً فإن حوالي ثلثي مواطني لاتفيا يعيشون في بنايات سكنية مكونة من شقق. فهذه واحدة من أعلى نسب السكن في الشقق في أوروبا، بحسب موقع يوروسات للإحصاء.
مصدر الصورةREINIS HOFMANISImage captionعلى الرغم من قلة سكان لاتفيا، توجد في هذا البلد أعلى نسبة من السكن في الشقق على مستوى أوروبا.
في الوقت ذاته، توصل إحصاء أجرته شركة العقارات إكتورنيت أن أكثر من ثلثي اللاتفيين يرغبون في العيش في مساكن خاصة منفصلة. وتخمن أوزولا أن هذا التباين يفسر جزئياً لماذا تعتبر المساحة الشخصية في غاية الأهمية بالنسبة لشعب لاتفيا.
لكن على اللاتفيين أن يكونوا حذرين فيما يرغبون به. فحسب مجلة بوليتيكو، فإن سكان لاتفيا يتراجعون بشدة بسبب الهجرة إلى الخارج، وهي أسرع نسبة تناقص سكاني في أي بلد من بلدان العالم.
وهكذا فإن الشعب الذي يرغب في وجود مساحة خاصة ربما يحصل على المزيد منها. في غضون ذلك، يعكف علماء النفس اللاتفيون على التحقيق بعمق في كيفية تأثير العادات اللاتفية، بما فيها التحفظ وعدم الاختلاط بأناس جدد، على مواقف اللاتفيين من اللاجئين، حيث أن الهجرة إلى لاتفيا ربما تكون أداة مهمة في تعويض ووقف التراجع في عدد السكان.
ويوجد لدى فيرنيرا نصيحة للزائرين والقادمين الجدد الذين أذهلهم ميل اللاتفيين إلى التحفظ: "أنصح أي أجنبي بعدم الخوف من الصمت الذي يلاحظه في البداية. فبمجرد أن يتعرف الأجنبي على شخص لاتفي، وبمرور وقت معين، يصبحا أصدقاء جيدين".
نحن لسنا أمة مغرقة في النظرية، لذا فإننا صرحاء جداً في جوانب معينة. فنحن لا نقول لأي شخص أننا نحبه، لذا فإن قال شخص لاتفي إنه أو إنها تحبك، فهذا يعني أنه أو أنها صادقة حقاً".
bbc