فرنسا: استقدام مئات الأئمة من الخارج بمناسبة شهر رمضان يثير جدلاً واسعاً
مع بدء شهر رمضان المبارك، حمي وطيس الجدل في فرنسا حول استقدام وزارة الداخلية نحو 300 إمام ومرشد من الجزائر والمغرب وتركيا لمساعدة الأئمة الموجودين في فرنسا لخدمة الجالية المسلمة التي يقدر عددها ما بين 5 و6 ملايين نسمة.
ورغم أن الحكومة الفرنسية الحالية لم تأتِ بجديد، إنما سارت على خطى الحكومات السابقة في هذا المجال، إلا أن الأعمال الإرهابية التي ضربت فرنسا والإساءات التي تلحق بالإسلام والمسلمين تجعل بادرة كهذه صعبة القبول.
وإذا كان استقدام أئمة من البلدان المسلمة، وتحديداً من بلدان المغرب العربي يخضع لاتفاقات بين باريس والعواصم المعنية، ورغم أن لوائح الأشخاص المستقدمين إلى فرنسا يتم التدقيق فيها حتى لا تتضمن متطرفين، فإن اللجوء إلى أجانب يطرح أكثر من سؤال خصوصاً أن الحكومات المتعاقبة يميناً ويساراً جعلت إحدى أولوياتها «فرنسة» الإسلام، وأولى الخطوات لذلك تكمن في تنشئة وتأهيل الأئمة الفرنسيين وعلى الأراضي الفرنسية.
لدى كل عملية إرهابية يدَّعي مرتكبوها ارتباطهم بالإسلام، كان اليمين المتطرف والجهات التي اعتادت الاصطياد في الماء العكر تتساءل عن قدرة الإسلام والمسلمين على التعايش مع قيم الجمهورية والعادات المجتمعية السائدة في فرنسا. السؤال طُرِح كذلك بشأن الحجاب ثم النقاب والبرقع واشتد مع ظهور «موضة البوركيني» (أي لباس البحر للنساء المسلمات).
وخلال السنوات الأخيرة، خصوصاً منذ عام 2015، فرضت مسألة تأهيل الأئمة نفسها على السلطات الفرنسية وممثلي الإسلام وتحديداً المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الذي رأى النور قبل وصول نيكولا ساركوزي إلى رئاسة الجمهورية في عام 2007، أي عندما كان وزيراً للداخلية.
ومع كل رئيس جديد، تطرح إشكالية علاقة الإسلام بالدولة والجمهورية. ولا يشذّ الرئيس الحالي عن القاعدة. وفهم أن إعادة تنظيم الإسلام تدرس على نار هادئة في قصر الإليزيه ووزارة الداخلية وشؤون العبادة التي يتولاها جيرار كولومب.
وكرست صحيفة «لو فيغارو» اليمينية أول من أمس، صدر صفحتها الأولى لملف الإسلام، وأعطت الكلام لوزيرة سابقة من أصل جزائري اسمها جانيت بوغراب التي تؤكد أن استقدام أئمة من خارج فرنسا «هرطقة غير مفهومة»، خصوصاً أن الحكومات لا تكفُّ عن التأكيد أنها عازمة على «قطع الصلات» بين مسلمي فرنسا والخارج. وتتساءل بوغراب كيف أن «دولة علمانية تنشغل باستقدام أئمة من الخارج لشهر رمضان فيما تسعى الدولة لإيجاد إسلام فرنسا بدلاً من الإسلام في فرنسا، ورغم ذلك فإنها تلجأ إلى الخارج». وفي السياق عينه، حث مانويل فالس، رئيس الحكومة السابق السلطات على وضع حد للاتفاقات التي تتيح استقدام الأئمة لأن ذلك «لا يتوافق مع صورة الإسلام المتنور».
وما يؤخذ على هؤلاء الأئمة أنهم يطأون أرض بلد لا يجيدون لغته ويجهلون عاداته وتقاليده والعقلية السائدة فيه ما يُسهِم في «تغريب» المسلمين بدل الدفع إلى اندماجهم في المجتمع الفرنسي. كذلك فإن عضو نجلس الشيوخ ناتالي غوليه نبهت من استحالة مراقبة أقوال وخطب هؤلاء القادمين من الخارج، مشيرةً إلى أن بعضهم يصل إلى فرنسا بتأشيرات سياحية. وتبدو «الصلات» بين الإسلام في فرنسا والخارج متنوعة وبالغة التعقيد، إذ إنها إنسانية وسياسية ومالية. وليس سرّاً أن كل بلد حريص على أن «يؤطر» جاليته المسلمة في فرنسا وغيرها.
ويعزو مطلعون على شؤون الجالية المسلمة في فرنسا وبعض أركانها فشل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية لسببين رئيسيين: الأول، التنافس بين الجاليات وفق انتمائها وجذورها، والثاني ضعف تمثيلها لمسلمي فرنسا رغم أنه ينهض على مبدأ الانتخاب.
والحال، كما يرى المطلعون، أن عملية الانتخاب مطعون بشرعيتها، إذ إنها تمنح عدد المقاعد قياساً لمساحة المساجد التي تديرها كل مجموعة، مثل مسجد باريس الكبير القريب من الجزائر أو الفيدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا القريبة من المغرب أو اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا القريب من فكر الإخوان المسلمين.
يُعدّ قانون عام 1905 بمثابة الفيصل في الحكم ما بين الدولة والديانات أيا تكن. والحال أنه يمنع الدولة من التدخل في شؤون الديانات وتحديداً توفير الدعم المادي لها. لكن المشكلة بالنسبة للدين الإسلامي أن الديانات الأخرى (كالمسيحية واليهودية) رتّبت أوضاعها قبل صدور القانون المذكور في الوقت الذي كانت فيه الديانة المسلمة هامشية بسبب قلة أعداد تابعيها. من هنا، فإن مسلمي فرنسا يجدون أنفسهم مضطرين للبحث عن الدعم المادي في الخرج لبناء المساجد أو أماكن العبادة ما يقوي الروابط مع الجهات المانحة التي تستخدم هذا الواقع للتأثير على جالياتها المسلمة.
في سعيها لمحاربة التطرف الإسلامي، عمدت الحكومات الفرنسية إلى طرد الأئمة التي تعتبر خطبهم أيام الجمعة والأعياد «متطرفة». من هنا، تبدو بادرتها الأخيرة «غير منسجمة» مع خطها العام. وبانتظار أن يكشف الرئيس ماكرون، مثل سابقيه، عن «خطته» لتنظيم الإسلام في فرنسا، فإن الجدل سيبقى حامياً وسيعرف مزيداً من السخونة مع كل عمل إرهابي يربط بالإسلام الذي منه براء.