آراء

موفق الخطاب: تحت المجهر.. محطات من رحلتي إلى العراق (الجزء الثاني)

من أربيل إلى الموصل، رحلة محمّلة بالشوق والذاكرة، أدوّن فيها مشاهد مدينةٍ قاومت المحن، وتعافت من الجراح، واستعادت روحها في الإنسان والمكان، بين الأسواق، والشوارع، ودفء الناس.

من أربيل يبدأ الشوق… وإلى الموصل تنتهي الرحلة
بعد قضاء أيامٍ وليالٍ جميلة في أربيل، عاصمة كوردستان، بصحبة الطيبين من الأقارب والأصدقاء الذين أخجلونا بكرمهم وجودهم، وهو أمرٌ ليس بغريب على من توارث بالجينات كرم الأجداد العراقيين العظام ، حزمنا أمرنا ونحن نحمل في قلوبنا شوقًا كبيرًا إلى مدينة الموصل وأهلها الطيبين.
تلك المدينة التي يعجز اللسان والقلم عن توصيفها، وعن تسطير تاريخها وما مرّت به من محن، لكنها بقيت شامخة أبية؛ اندحر وانكفأ كل من عاداها وأراد بها وبأهلها سوءًا، فلفظتهم خارج أسوارها، ولعقت جراحها، وانتصبت كالعنقاء لا تلتفت خلفها.
سنكمل معكم هذه الرحلة لننقل الصورة كما هي، دون زيادة ولا نقصان ، عبر محطات متعددة، بوصفٍ ينعش الذاكرة ويشوق الغريب ليشدّ الرحال إلى هذه المدينة التي لا مثيل لها في المعمورة، مع تسجيل بعض الملاحظات في ختام المطاف، لعلها تصل إلى ذوي الشأن قبل أن تتحول إلى أزمات مستعصية.

عين القادم ترى ما لا يراه المقيم:

ربما لا يلمس ابن المدينة مظاهر الاستقرار والتطور المتسارع والتنظيم والبناء كما يلاحظها القادم إليها بعد انقطاع لعدة سنوات، وهو ما بدا واضحًا في هذه الزيارة.
ولا بد هنا من الإشارة إلى الجهد الكبير الذي بذلته الحكومة الاتحادية والحكومة المحلية ودوائرها الخدمية ، وفي مقدمتها بلدية الموصل ودائرة الطرق والجسور، من خلال حملة مكثفة شملت إنشاء شبكة طرق حديثة، واستكمال إعمار الجسور التي دمرتها حرب التحرير، ورفع مئات الآلاف من أطنان مخلفات الحرب، وإصلاح الطرق، وإعادة تنظيم المرور والبنى التحتية.
كما امتد هذا الجهد إلى تشييد المجسرات التي خففت من الاختناقات المرورية، والتوسع في إنشاء الحدائق العامة والمتنزهات، وحملات الاستزراع والتشجير، وإنارة الشوارع، وتنظيم الأسواق ، فضلًا عن إعادة إكساء وتطوير مداخل المدينة ومخارجها، وإعمار جامعة الموصل ومكتبتها الكبيرة، التي تُعد من أجمل جامعات العراق موقعًا وتنظيمًا.
وإكمال تشييد و تشغيل مطار الموصل رغم اقتصاره حاليا على الرحلات الداخلية التي لا تلبية طموح ابن المدينة والتي كان يعول عليه الكثير.

تعافي الإنسان مقدم على تعافي المكان:

ما لفت انتباهي بشكلٍ ملحوظ هو استقرار الحالة النفسية للمواطن الموصلي، بعد أن تعافى من آثار داعش التي أرعبت الناس ثلاث سنينٍ عجاف، وهو ما انعكس إيجابًا على سلوكه وهدوئه.
لمست ذلك حتى في الشارع؛ ففي الأعوام الماضية كنت أفقد أعصابي بسبب الفوضى المرورية وغياب الالتزام بقواعد السياقة، أما في هذه الزيارة فقد بدا الفرق واضحًا في وعي سواق المركبات والمواطنين.
بل إن الرقي في التعاملات اليومية أصبح ملموسًا؛ من رجل الأمن وشرطي المرور، إلى الباعة وأهل الحِرَف والمطاعم والأسواق، الجميع يستقبلك بابتسامة صادقة، ويرحب بك، ويسعى لخدمتك وإرشادك.

أسواق الموصل و عبق الماضي :

فرحت كثيرًا وأنا أطوف في أسواق الموصل القديمة في ساحلها الأيمن، وقد عاد إليها نبض الحياة، فغدت تعج بالمتسوقين من داخل المدينة وخارجها، من أقضيتها ونواحيها.
وبعد تناول الفطور العراقي الشهير؛ الكاهي والقيمر عند باب الجسر العتيق، ثم تناول قدح من الشاي، بدأت الجولة في سوق العطارين، ذلك السوق الذي يحكي تاريخ الموصل وتنوع تجارها من المسلمين والمسيحيين واليهود و تجارتهم الفريدة، فقد جمعهم حب المدينة، ولكلٍ منهم بضاعته الخاصة التي لا ينافس بها جاره.

باب السراي… امتحان الإرادة أمام الحلوى:

وساقتنا الخطى بعد ذلك الى سوق باب السراي، الذي أُعيد إعمارُه ليعود بثوبٍ جميل حيث لا يمكنك أن تتمالك نفسك وانت قد وصلت إلى منتصفه عند باعة الحلوى أمام مشهد الحلاوة الموصلية:
حيث تتصدر المشهد البصري بقوة حلاوة الطحينية( الراشي) المرصّعة بالفستق والجوز، واللوزينة، والسمسمية، وحلاوة الخضر بأقراصها الدائرية، والسجقات المتدلية من حمالة الخشب، والمصقول (الملبس)، والحلقوم الموصلي الشهير.
أما “سيدة الحلوى” (من السما) فتتربع فوق الجميع، ويصر البائع على أن تتذوق من كل صنف، ولا يسعك رد الكريم. وكان الله في عون مرضى السكر أمام هذا الإغراء.

باب الطوب والدواسة… ذاكرة المدينة الحيّة:

استكملنا المسير الى باب الطوب، الذي عاد بحلته الجديدة وقد شيدت البلدية سوق الأربعاء بواجهات و مواصفات هندسية جميلة و تتوسط المكان الحدائق والنافورات لتكون متنفسًا لأهله ليلًا.
أما الدواسة، فقد تعافت من جراحها، لكنها لم تعد تتصدر التجارة كما في السابق، بسبب التنافس مع شوارع الساحل الأيسر؛ شارع المثنى، وسيدتي الجميلة، وشارع الجامعة. وهكذا هي سنة الحياة؛ تشيب الولدان كما تشيب الاسواق و تتصدع العمدان.

سوق السمك…
القرار الصعب الذي حسمه الشبوط::

بعد صلاة الظهر في مسجد الباشا، كان الغداء في سوق السمك، ذلك السوق العامر الذي لم أرَ له مثيلًا في البلدان التي زرتها.
أنواع السمك النهري الطازج مصطفة على الجانبين، وبعضها حي يكاد يتفلت من يد البائع من قوة زعانفه..
وهي متنوعة فمنها البني ، والحمراوي، والزبيدي، والشبوط، والجري، والكاربي، والزوري، والسبوتي.
ولم نتردد كثيرا ولم نحتار فقد حسم الشبوط المقلي الاختيار.
وكما هي عادة العراقيين، لا يكتمل الغداء الثقيل إلا باستكان شاي معطر بالهيل.

و للحديث بقية…
سنتناول في الجزء الثالث من هذه السلسلة التجوال في بقية أسواق الموصل ومجالسها، ونزور منارتها الحدباء الشهيرة، لنكمل فصول حكاية مدينة لا تنكسر.

زر الذهاب إلى الأعلى