آراء

روبيرت ملحم: (البشير شو).. كيف صنع الإعلام الساخر تحولًا في الوعي السياسي والاجتماعي بالعراق؟

لا يمكن الحديث عن السخرية السياسية في العالم العربي دون المرور بمحطة أساسية اسمها أحمد البشير(البشير شو)، الرجل الذي لم يكتفِ بتقديم برنامج، بل صنع حالة كاملة تجاوزت حدود الشاشة. ومع مرور السنوات، لم يعد المشاهد يفرّق كثيرًا بين “أحمد البشير” و”البشير شو” فكلاهما أصبح مرآة للآخر، وصوتًا واحدًا يصرخ بالمرح حين يعجز الآخرون عن الكلام.

أحمد البشير، بخلفيته الصحفية وقدرته الاستثنائية على التقاط التفاصيل، صاغ أسلوبًا يجمع بين الجرأة والضحك، وبين النقد والتحليل، ليحوّل “البشير شو” إلى مدرسة إعلامية قائمة بذاتها. البرنامج بدوره لم يكن مجرد مساحة للسخرية، بل منصة لكشف الفساد والفشل السياسي والاجتماعي، مستخدمًا لغة يفهمها الجمهور ويثق بها.
ومع اتساع جمهور البرنامج، تحوّل البشير نفسه إلى رمز ثقافي، يعكس بمزاجه وذكائه وطريقته الساخرة المزاج العام للشارع العراقي والعربي. لم يعد “البشير شو” فقط حلقة أسبوعية، بل أصبح حالة تنتظرها الجماهير، وتستعيد مقاطعها، وتناقش رسائلها على وسائل التواصل.
إن الخلط بين أحمد البشير و”البشير شو” ليس مجرد تداخل بين شخصية ومحتوى، بل هو تعبير عن نجاح نادر: نجاح المقدم في خلق برنامج يشبهه تمامًا، ونجاح البرنامج في تشكيل هوية مهنية وشعبية للمقدم نفسه. ومن هنا، تستمر الظاهرة، لأن الناس وجدت فيها ما لم تجده في الإعلام التقليدي: الجرأة، الحقيقة، والضحكة التي تكشف أكثر مما تخفي.
يبرز برنامج “البشير شو” كواحد من أهم الظواهر الإعلامية في العراق خلال السنوات الأخيرة، إذ تجاوز دوره الترفيهي التقليدي ليصبح منصة نقدية فاعلة تؤثر في الرأي العام، وتعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والسلطة، خصوصًا بين فئة الشباب. ومن خلال تحليل علمي يستند إلى نظريات الإعلام وتجربة الواقع العراقي، يمكن فهم التأثير الذي أحدثه البرنامج على ثلاثة مستويات: معرفي، اجتماعي، وسياسي.

يبرز برنامج “البشير شو” كأحد أبرز الظواهر الإعلامية في العراق خلال السنوات الأخيرة، بعدما تجاوز دوره الترفيهي التقليدي ليغدو منصة نقدية فاعلة أثّرت في الرأي العام، وأسهمت في إعادة تشكيل العلاقة بين المواطن والسلطة، خصوصًا لدى فئة الشباب. وبالاستناد إلى نظريات الإعلام وتجربة الواقع العراقي، يبدو تأثير البرنامج ممتدًا على مستويات معرفية واجتماعية وسياسية متشابكة.
لقد استطاع البرنامج ترسيخ حضوره عبر ثلاث ركائز أساسية في علم الإعلام. أولها قدرة البشير على وضع الأجندة من خلال تحويل ملفات الفساد وسوء الإدارة إلى قضايا مركزية داخل النقاش العام، محددًا ما ينبغي للجمهور التفكير فيه. وثانيها التأطير الساخر، حيث لم يكتفِ بنقل الأحداث بل أعاد صياغتها بمنطق ناقد يبرز تناقضات الخطاب الرسمي ويقرّب الفكرة إلى المتلقي. أما الركيزة الثالثة فهي صناعة مجال عام رقمي يمكّن الشباب من تداول الأفكار والآراء بحرية، في انسجام مع نموذج “المجال العام” لهابرماس، وبما يتحدى هيمنة الإعلام التقليدي المرتبط بالأحزاب.
هذا الخطاب الساخر تحوّل إلى سلاح لتفكيك السلطة، إذ ساهم البرنامج في كسر الهيبة البيروقراطية للمؤسسات السياسية، وتبسيط المشهد السياسي المعقد بلغة شعبية قريبة من الناس، إلى جانب ترسيخ خطاب وطني غير طائفي يعبر عن تطلعات الشباب. ومن خلال هذا النهج، بات البرنامج يمثل بديلاً إعلاميًا يعبر عن صوت المواطن، ويخاطب همومه بجرأة غير مسبوقة.
وقد ظهر تأثير البرنامج بوضوح على الوعي الجمعي للشباب العراقي. فقد أصبح مدخلًا لفهم السياسة، وساعد في بناء قدرة تحليلية لدى جيل كان بعيدًا عن الشأن العام، ودفعه نحو التفكير النقدي بعيدًا عن الخطابات العائلية والطائفية. كما شجع على كسر حاجز الخوف في التعبير عن الرأي، وأسهم في ظهور ثقافة إعلامية شبابية جديدة على المنصات الرقمية، تقوم على النقد الجريء والمحتوى المستقل.
أما سياسيًا، فقد تجلى تأثير البرنامج بشكل غير مباشر في العمليات الانتخابية، إذ ساعد في تغيير أولويات الناخبين الشباب من الهويات الطائفية إلى معيار الكفاءة ومحاربة الفساد، وخفّض الثقة بالأحزاب التقليدية، وعزز المشاركة الرقمية التي أصبحت اليوم إحدى أدوات تشكيل الرأي العام. كما تزامنت ذروة تأثيره مع انتخابات 2018 و2021، وهي الفترة التي شهدت ارتفاعًا في الوعي السياسي لدى الشباب.
وامتد دور البرنامج إلى الحراك المدني والاحتجاجات التي شهدها العراق في 2015 و2019، حيث أسهم في رفع مستوى الوعي الاحتجاجي عبر كشف آليات الفساد، وانتشرت مقاطعه داخل ساحات التظاهر، واستخدمت عبارات منه في اللافتات والميمات السياسية. كما عزز خطابًا وطنيًا موحدًا يرفض الطائفية ويدعو للحكم الرشيد، ووفّر منصة إعلامية بديلة في ظل محاولات بعض وسائل الإعلام التلاعب بالروايات الرسمية.
ورغم هذا التأثير الواسع، تبقى هناك حدود موضوعية يجب الإشارة إليها، أبرزها أن تأثير البرنامج يتركز في المدن أكثر من الأرياف، وأن السخرية رغم قوتها قد تؤدي أحيانًا إلى تبسيط القضايا السياسية المعقدة. كما أن تأثيره يبقى غير مؤسسي، يظهر بقوة في لحظات الاحتجاج أكثر من ظهوره في سياقات العمل السياسي المنظم.
ختامًا، يمكن القول إن “البشير شو” لم يعد مجرد برنامج ساخر، بل أصبح ظاهرة إعلامية وسياسية تركت أثرًا واضحًا على الوعي العراقي الحديث. فقد رفع مستوى الإدراك السياسي، وأسّس لمجال عام رقمي جديد، وأسهم بشكل غير مباشر في إعادة تشكيل المزاج الانتخابي والحراك المدني. وبذلك فتح الباب أمام جيل جديد من الخطاب الإعلامي النقدي المستقل، القادر على محاسبة السلطة وصياغة رأي عام أكثر وعيًا وجرأة.

كاتب وصحفي عراقي مقيم في الولايات المتحدة

زر الذهاب إلى الأعلى