تحقيقات ومقابلاتموضوعات رئيسية

مبعوث واشنطن “غير الدبلوماسي” إلى العراق: بين الدبلوماسية الاقتصادية وتحييد الميليشيات بالصمت

يورو تايمز / خاص

في خطوة غير تقليدية، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعيين رجل الأعمال من أصول عراقية مارك سافايا مبعوثًا خاصًا إلى جمهورية العراق، في قرار أثار تساؤلات واسعة حول خلفيات الرجل، وأسباب اختياره، وطبيعة الدور الذي يُراد له أن يلعبه في واحدة من أكثر الساحات تعقيدًا في الشرق الأوسط.

سافايا، القادم من ديترويت في ولاية ميشيغان، لا يملك خلفية دبلوماسية أو سياسية تقليدية. فهو رجل أعمال اشتهر بإدارته سلسلة متاجر للقنّب الطبي تحت اسم Leaf & Bud، وله حضور مؤثر على وسائل التواصل الاجتماعي، كما كان من الناشطين البارزين في حملة ترامب الانتخابية بولاية ميشيغان، حيث ساهم في تحقيق رقم قياسي في تصويت الجاليات المسلمة والعربية لصالح الجمهوريين.

اختيار سافايا لهذا المنصب يبدو من الوهلة الأولى تعيينًا سياسيًا مكافئًا لدوره الانتخابي، لكن قراءة متعمقة في دوافع واشنطن، وسياق السياسة الأمريكية الجديدة في العراق، تكشف أن المهمة الموكلة إليه تتجاوز الشكر السياسي إلى بناء قنوات نفوذ غير رسمية تعتمد على الاقتصاد والشبكات الاجتماعية بدل الدبلوماسية التقليدية.

مبعوث بمواصفات غير مألوفة

مصادر أمريكية مطلعة تشير إلى أن إدارة ترامب الثانية تميل إلى ما يُعرف بـ”الدبلوماسية الاقتصادية الخفيفة” — أي استخدام رجال أعمال وشخصيات مؤثرة في الشتات لقيادة ملفات إقليمية حساسة، في وقت تتجه فيه واشنطن إلى تقليص وجودها العسكري المباشر في العراق مقابل توسيع الحضور الاقتصادي والإعلامي.

بهذا المعنى، يُعد سافايا أداة نفوذ ناعمة تهدف إلى التغلغل في المجتمع العراقي عبر مبادرات تنموية وتعليمية وصحية، وليس عبر البيانات السياسية أو التهديدات العسكرية.
فهو يُمثّل جيلًا جديدًا من المبعوثين الأمريكيين الذين يتحدثون بلغة السوق لا بلغة السياسة، ويُفضلون الحديث عن فرص العمل والمنح الدراسية بدل التحالفات العسكرية.

شبكة النفوذ: من ديترويت إلى بغداد

يمتلك مارك سافايا قاعدة علاقات متينة في أوساط الجاليات العراقية والكلدانية في ميشيغان، وهي جالية ذات نفوذ مالي وإعلامي ملحوظ. كما يرتبط بعدد من رجال الأعمال في الخليج وتركيا، مما يجعله حلقة وصل محتملة بين الشتات العراقي والمشاريع الأمريكية في الداخل.

واشنطن تراهن على هذه الشبكة لتفعيل “قنوات بديلة” مع بغداد، بعيدًا عن الإجراءات البيروقراطية، خصوصًا في مجالات الاستثمار، التعليم، والتكنولوجيا.
ومن المتوقع أن يركّز سافايا خلال أول مئة يوم من مهامه على ثلاثة مسارات عملية:

  1. إطلاق برامج صحّة رقمية وتعليم مهني في بغداد وأربيل.
  2. إنشاء حاضنات أعمال مرتبطة بالجاليات العراقية في الخارج.
  3. بناء منصة تواصل إعلامية مخصصة للجمهور العراقي تتحدث بلغة محايدة وشعبية.

بين بغداد والإطار: تحرك تحت المراقبة

في بغداد، استقبلت الأوساط الحكومية تعيين سافايا بحذر. فالحكومة العراقية – رغم ترحيبها المبدئي بأي دعم اقتصادي – تدرك أن الرجل يتجاوز الطابع البروتوكولي ويعمل بأسلوب مباشر أقرب إلى “المسار الموازي”.
ولهذا يُتوقّع أن تُشكّل الحكومة خلية اتصال رسمية تضم وزارة الخارجية وهيئة الاستثمار ومستشارية الأمن الوطني، لتوثيق لقاءاته وتجنّب أي خلافات مع البرلمان أو الإطار التنسيقي.

أما الإطار التنسيقي والفصائل المسلحة، فقد قرأوا التعيين في سياق آخر:
فهو بالنسبة لهم محاولة أمريكية جديدة لإعادة التمركز داخل العراق عبر قنوات اقتصادية واجتماعية، بعد فشل سياسة العقوبات والمواجهات المباشرة.
ومع أن الإطار لن يعارض وجوده علنًا في البداية، إلا أن مصادر سياسية تتوقع حملات تشويه مبكرة على وسائل التواصل الاجتماعي تربطه بالقنّب الطبي وتصفه بـ”مبعوث المصالح الخاصة”، خصوصًا إذا بدأت مشاريعه تستقطب اهتمام الشارع.

تحييد الميليشيات: الصمت بدل المواجهة

التحليل الاستراتيجي لمقاربة سافايا يشير إلى أنه لن يواجه الميليشيات علنًا، بل سيسعى إلى تحييدها تدريجيًا عبر ما يُعرف بـ“الاختراق الناعم”.
فهو لن يتحدث عن “نزع سلاح” أو “نفوذ إيراني”، بل سيعمل على إدخال رجال أعمال من بيئات الفصائل في مشاريع ممولة أمريكيًا، لخلق مصالح اقتصادية مشتركة تقلّل من دوافع التصعيد.

بهذا المعنى، سافايا يمثل نمطًا من العمل الأميركي يعتمد على الحصار المالي بدل القوة الصلبة، أي “خنق النفوذ الإيراني بالصفقات والمصالح لا بالصواريخ والعقوبات”.

ومع ذلك، تبقى هناك ثلاث مستويات تصعيد محتملة من جانب الميليشيات:

  1. تشويه إعلامي ناعم عبر القنوات المحسوبة على الإطار.
  2. تعطيل إداري للمشاريع الاقتصادية عبر البيروقراطية المحلية.
  3. تحركات ميدانية منخفضة الشدة إذا اقترب نشاطه من مناطق النفوذ الحساسة.

وسيتعامل سافايا مع هذه الضغوط بالتجاهل الاستراتيجي، مع تعزيز التواصل مع شخصيات في الإطار التنسيقي ورفع الغطاء الإعلامي عن أي نشاط عدائي ضده.

كردستان: منصة الانطلاق الآمنة

على النقيض من بغداد، يُتوقع أن يجد سافايا في إقليم كردستان بيئة تنفيذ مثالية.
فأربيل تتبنى منذ سنوات استراتيجية الانفتاح على واشنطن والقطاع الخاص الأميركي، وستسعى إلى احتضان برامجه الاستثمارية والتعليمية لتقديم نموذج “العراق المستقر والمفتوح”.
غير أن هذا الانفتاح قد يُثير حساسية الحكومة الاتحادية إذا تم تجاوزها بروتوكوليًا، لذا من المرجّح أن تُدرج أربيل وزارات اتحادية شريكة شكليًا في أي مذكرة تفاهم لتجنّب اتهامها بإدارة “مسار موازٍ” للدولة.

واشنطن: نفوذ جديد بوجه مدني

من وجهة النظر الأميركية، يمثّل هذا التعيين تجربة سياسية جديدة في العراق، تتوافق مع رؤية ترامب القائمة على “الصفقات بدل الحروب”.
فبدل السفراء والعسكريين، تراهن الإدارة على رجال أعمال ومؤثرين ذوي خلفيات اجتماعية قادرة على اختراق الطبقة الوسطى العراقية وإعادة بناء صورة الولايات المتحدة من الداخل.

البيت الأبيض يرى في سافايا وجهًا غير تقليدي لسياسة أميركا: شاب من أصول عراقية يتحدث بلهجة قريبة من الجمهور العربي، ويملك فهمًا مزدوجًا للثقافتين، ما يجعله قادرًا على خلق توازن بين الهوية الأميركية والموروث العراقي.

مؤشرات الميدان خلال الأشهر الأولى

يرجح المراقبون أن يتم تقييم أداء سافايا عبر خمس مؤشرات رئيسية:

  1. عدد الاتفاقيات الاقتصادية ومذكرات التفاهم التي يوقّعها خلال أول مئة يوم.
  2. سرعة منح الموافقات الحكومية في المحافظات ذات النفوذ الفصائلي.
  3. درجة التصعيد الإعلامي ضده في قنوات الإطار.
  4. مستوى الانفتاح الكردي على مبادراته.
  5. حجم مشاركة الشتات العراقي في مشاريعه الاستثمارية.

وإذا تمكن من تحقيق اختراق في محورين على الأقل (الاقتصاد والتعليم)، فسيكون قد رسّخ نموذج “المبعوث الاقتصادي” الذي تراهن عليه إدارة ترامب في الشرق الأوسط.

خلاصة

مارك سافايا ليس مبعوثًا عادياً، بل نموذج سياسي جديد يجمع بين الولاء الانتخابي لترامب والبراغماتية الاقتصادية، ويعمل تحت مظلة استراتيجية أميركية تهدف إلى تحييد النفوذ الإيراني بالمال لا بالقوة.

تعاطي الحكومة العراقية معه سيحدد شكل العلاقة المقبلة بين بغداد وواشنطن، فيما ستبقى الميليشيات تراقب تحركاته بعيون الشك حتى تتأكد إن كان تهديدًا لمصالحها أم فرصة جديدة لتوسيع نفوذها الاقتصادي.

أما إقليم كردستان، فسيكون على الأرجح المحطة الأولى لتجربة النموذج الأمريكي الجديد في العراق — نموذج يقدّم “الصفقة” بدلاً من “التحالف”، و“المنحة” بدلاً من “القاعدة العسكرية”.

زر الذهاب إلى الأعلى