آراء

د. عبدالرزاق محمد الدليمي: تقييم تجارب الحكم في العراق

تردني كثيرا ملاحظات من عراقيين شرفاء يحاولون ان يضعوا بعض المعايير التي تقيم تجارب الحكم قبل الاحتلال بما يعني ان العراق بلد ولاد وفيه قدرات وامكانيات لبناء افضل الأنظمة السياسية الوطنية المستقلة بعيدا عن المحتل وذيوله كما هو واقع الحال منذ نيسان ٢٠٠٣

محاولة لتقويم الأنظمة قبل الاحتلال
من منظور تاريخي وسياسي يثير تقييم النظام الملكي في العراق (1921-1958) تباينات كبيرة لكنه يتفق في جوانب رئيسية حول النفوذ البريطاني وضعف الإمكانيات الشعبية. أما الفترة اللاحقة (1968-2003)، فقد شهدت بالفعل تحولات كبرى في استخدام ثروة النفط لبناء قاعدة اجتماعية واسعة.

  1. تقييم النظام الملكي في العراق (1921-1958)
    يمكن وصف العهد الملكي بأنه فترة تأسيس للدولة الحديثة لكنها كانت محكومة بقيود خارجية وداخلية جعلت من إمكانياته محدودة، خاصة على المستوى التنموي والشعبي.
    أ. النفوذ البريطاني والسيادة المنقوصة
    سيطرة الثروات: الفكرة القائلة بأن ثروات البلد كانت للبريطانيين هي فكرة دقيقة إلى حد كبير. فبالرغم من إنهاء الانتداب في عام 1932، ظلت المعاهدات (مثل معاهدة 1930) تمنح بريطانيا حقوقًا عسكرية واقتصادية غير مشروطة تقريبًا، مما أبقى على النفوذ البريطاني هو الحاكم الفعلي على موارد العراق، خاصة النفط الذي كانت تسيطر عليه شركة نفط العراق (IPC) التي كانت بريطانيا شريكًا رئيسيًا فيها.
    الحكام الفعليون: كان المستشارون الإنجليز هم المتحكمين في الوزارات والإدارات الحيوية، ولم يكن يُقرر أي شيء دون موافقتهم، مما جعل السيادة العراقية صورية.
    إنشاء الدولة: تشكل النظام الملكي ذاته بتوجيه بريطاني (مؤتمر القاهرة 1921) لتنصيب الملك فيصل الأول (الذي تم إبعاده من سوريا من قبل الاستعمار الفرنسي )
    مما أضعف شرعيته الوطنية الكاملة لدى قطاعات واسعة من الشعب.
    ب. الإمكانيات والوضع الشعبي
    فقر الأغلبية: على الرغم من أن الفترة الملكية شهدت بعض الإنجازات المؤسسية (تأسيس الجيش والقضاء والبرلمان). إلا أن الأغلبية الساحقة ٩٧٪؜ من الشعب خاصة في الأرياف ظلت تعيش في فقر مدقع فيما كانت الثروة والسلطة تتركز في يد شريحة ضيقة من كبار الملاك والإقطاعيين والمعممين !! المرتبطين بالنظام والطبقة السياسية التقليدية (مثل نوري السعيد).
    تأسيس المؤسسات: كان الإنجاز الأهم هو تأسيس البنية الهيكلية للدولة العراقية الحديثة وتوحيد ولايات الموصل وبغداد والبصرة تحت مظلة وطنية واحدة، لكن التطور الاقتصادي والاجتماعي الشامل كان بطيئًا جدًا.
  2. التغيير الحقيقي الذي طوَّر العراق وشعبه بين 1968-2003
    بدأ التحول الحقيقي في استخدام ثروة النفط لخدمة التنمية الاجتماعية الشاملة في العهد الجمهوري، وبلغ ذروته في السبعينيات بعد 1968 وتولي حزب البعث السلطة. كان هذا التغيير مدفوعًا بفلسفة الاعتماد على الثروة الوطنية وتطوير البلد وشعبه وتطبيق برامج اجتماعية واسعة.
    أ. السيطرة على الثروة: تأميم النفط
    السيادة الاقتصادية: كان التغيير الأهم هو تأميم النفط في عام 1972 مما نقل السيطرة على مصدر الثروة الرئيسي من الشركات الأجنبية إلى الدولة العراقية. هذا القرار وفر سيولة مالية ضخمة استخدمت لتمويل خطط التنمية الشاملة.
    ب. الإنجازات الاجتماعية التنموية (في نهاية الستينيات وكل السبعينات حتى نهاية الثمانينات)
    استخدمت الدولة كل عائدات النفط لتنفيذ إصلاحات اشتراكية واسعة النطاق أثرت مباشرة على حياة المواطن:
    التعليم ومحو الأمية: أطلق العراق برامج واسعة النطاق لمحو الأمية وتوسيع التعليم حتى حظي باعتراف اليونسكو في الثمانينيات كأحد أنجح برامج محو الأمية في المنطقة. أصبح التعليم مجانيًا وإلزاميًا في مراحله الأولى.
    الصحة والرعاية الاجتماعية: توسع النظام الصحي بشكل كبير بإنشاء المستشفيات والمراكز الصحية في المدن والأرياف، وأصبح العلاج مجانيًا بالكامل. واصبح في العراق افضل رعاية صحية في كل الشرق الاوسط كما تم بناء منظومة واسعة من الخدمات الاجتماعية والدعم الحكومي.
    وتطورت الصناعة والزراعة: تم إنشاء قاعدة صناعية وزراعية كبيرة (بناء المصانع والمشاريع الكبرى) هدفت لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتحسين الأمن الغذائي. كما نُفذت إصلاحات زراعية جزئية.
    التعبئة الوطنية: نجح النظام في حشد الطاقات الوطنية وتوسيع قاعدة المشاركة الاجتماعية والسياسية (رغم أنها كانت تحت مظلة الحزب الواحد).

بينما أرسى النظام الملكي دعائم الدولة القانونية وحاول تحدي النفوذ البريطاني، كانت الإمكانيات المتاحة له محدودة اقتصاديًا بسبب سيطرة بريطانيا على النفط، مما أدى إلى فقر واسع. أما فترة 1968-2003 فقد مثلت تحولاً جذريًا تمثل في تأميم الثروة وتوجيهها نحو التنمية الاجتماعية، مما رفع مستويات التعليم والصحة والبنية التحتية بشكل غير مسبوق في تاريخ العراق الحديث، قبل أن تتراجع هذه الإنجازات لاحقًا بفعل الحروب والحصار الاقتصادي.

زر الذهاب إلى الأعلى