نزار العوصجي: البرجوازية الطفيلية وصعود المافيات!

في مقال سابق تناولنا بأسهاب شرح مصطلح البرجوازيه الطفيليه وبروز الأشخاص الذين أغتنوا على حساب الشعب ..
اليوم نتناول جانب أخر مرتبط بما سبقه ، ألا وهو ظاهرة صعود المافيات وبروز إمبراطوريات الفساد وانتشارها ..
بدءاً لابد من ان نذكر بمعنى البرجوازيه الطفيليه ، فالمصطلح باختصار يعني الأغتناء المفاجئ لطبقة من المتعطشين للثراء ، بغض النظر عن مشروعية المال او مصدره ..
ومن أهم ما يميز تلك الطبقة انها لا تساهم في عمليات الإنتاج المادي ، كونها نتاج الدولة الريعية ..
ويمكن الاستنتاج بأن السمة الطفيلية ، هي خلاصة تركيبية للتفاعل الثلاثي مابين رأس المال العام ، والدولة الريعية ، والاستغلال الرأسمالي لموارد الدولة ، لصالح جهات معينة ..
أن الحديث عن صعود المافيات وبروز أمبراطوريات الفساد وأنتشارها يدفعنا إلى التحقق من مصدر الثروات التي حصلوا عليها ، فلا يكاد أي مجتمع يخلوا من تفاوت في الثروة والتمايز الطبقي ، ويبدوا التلازم واضحاً بين شكل تصنيف الطبقة الأجتماعية وطريقة أكتسابها لثرواتها ..
لكن ما يحدث في المجتمع العراقي بعيد عن التقسيم الطبقي الكلاسيكي الذي نقرأ عنه في توصيفات أصحاب الثروات أو الفقراء وحتى الطبقة الوسطى ، فالظاهرة العجيبة في العراق هي المافيات الصاعدة بقوة ، التي لا تندرج تحت أي توصيف طبقي اجتماعي ..
في العراق يمكن وصفها بالطبقات الطفيلية الصاعدة ، وتضم رجالات السياسة وزعماء الحروب والجماعات المسلحة ، بالأضافة إلى شخصيات ترتبط بالمكاتب الاقتصادية للأحزاب السلطوية ..
وكذلك شخصيات ترتبط بصلات قرابة ونسب مع القيادات السياسية ، ورجال الأعمال المقربين من الحكومات أو الزعامات السياسية ، ومن ثم ، فإن هذه الطبقة الطفيلية باتت تضم خليطاً عجيباً من مافيات وميليشيات ورجالات السياسة وحاشيتهم ..
لقد أكد تقرير لمجلة إيكونوميست البريطانية أن الكثير من قادة الفصائل المسلحة في العراق (المدعومة من إيران) ، أصبحوا اليوم جزءاً راسخاً من النخبة الاقتصادية في البلاد ، مما جعلهم يتعاملون بحذر شديد مع أي تصعيد قد يهدد مصالحهم المتنامية والمتصاعدة ..
حيث يسيطر قادة هذه الفصائل بشكل مباشر أو من خلال واجهات مدنية على الجامعات الأهلية والمستشفيات الخاصة والمجمعات التجارية الضخمة والأستثمارات لمدن سكنية !!
لذا فأنهم يعهدون بإدارتها لأشخاص مقربين منهم يتولّون الواجهة العلنية ، بينما تظل الملكية الحقيقية بيدهم ، وهذا التوسع في النفوذ الاقتصادي منحهم ثروة ونفوذاً كبيرين داخل مؤسسات الدولة ، لا سيما في الوزارات الحيوية ..
وتشير المجلة إلى أن ما يُعرف بـ (خطاب المقاومة) بات يستخدم في الإعلام فقط ، في حين تُقدَّم المصالح الاقتصادية على أي التزام أيديولوجي تجاه إيران ..
وتضيف أن كثيراً من قادة هذه الجماعات (لديهم اليوم الكثير ليخسروه) ، ولهذا لم يُبدوا حماساً يُذكر خلال الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل ، وفضلوا الابتعاد عن أي خطوة قد تجرّهم إلى مواجهة مع الولايات المتحدة أو تل ابيب ..
وخَلص التقرير إلى أن شعارات المقاومة والممانعة والولاء لمحور المقاومة أصبحت ، في نظر هؤلاء القادة ، أدوات للخطاب الداخلي والسيطرة الشعبية ، أكثر من كونها خياراً عملياً على الأرض ..
أن صعود المافيات بعد 2003 كانت له ظرفية مختلفة ، إذ إن بداياتهم كانت بسبب غياب الدولة وضعف سلطة القانون ، لذلك بدأوا كعصابات تعمل في مجالات محددة من الخطف وممارسة الأستيلاء على الأملاك العامة أو الخاصة ..
ولو أردنا التدقيق في مصادر أموال هذه الطبقة المافياوية سنجد أنها تعود إلى علاقتها مع قوى السلطة والنفوذ التي مكنتها من السيطرة على مجالات الاستثمارات أو قطاع المصارف أو الهيمنة على المشاريع الحكومية في مجالات الطاقة والنفط ..
ومع توسع موارد الدولة من النفط وزيادة إنفاقها على مشاريع بعناوين خدمية واستثمارية ، أنتجت طبقة رأسمالية من المقربين ، تستغل علاقتها مع السياسيين ، للحصول على الأراضي والقروض من البنوك ..
وبالنظر إلى جميع مراحل التغيير في أنظمة الحكم التي شهدها العراق ، علينا التمييز بين نوعين من المافيات الصاعدة ، النوع الأول هو أصحاب الأموال الذين عملوا على تنمية ثرواتهم وأموالهم من خلال توثيق علاقاتهم بالقوى الحاكمة والمتنفذة سياسياً ..
وربما لا يصح وصفهم بالمافيات ، لكن عدم قدرتهم على ممارسة أشغالهم في مجالات الأعمال والاقتصاد إلا من خلال العلاقة غير الشرعية بمنظومة السلطة ، يجعلهم لا يختلفون عن المافيات ..
أما النوع الثاني فهم الشخصيات التي تظهر من قاع المجتمع وتتحول بين ليلة وضحاها إلى رجالات أعمال ، أو تدير مصارف أو تملك مشاريع استثمارية !!
وبالنتيجة ما يجمع بين النوعين هو تحولها إلى كائن يملك الثروة ، تتوسع ثروته بطريقة الكائن الطفيلي ، الذي يعتاش على علاقاته غير الشرعية بمراكز السلطة والنفوذ السياسي ..
ان منظومة الحكم ونمط أقتصاد الدولة في العراق هما البيئة الخصبة لتفريخ المافيات ، فالمنظومة السلطوية ترسخ مفاهيم ما قبل الدولة ، ومن أهمها التعاطي مع السلطة باعتبارها غنيمة ..
أما نمط الأقتصادي الريعي القائم على ريع الأرض أو ما يستخرج منها ، فلا يمكنه أن ينتج إلا سلطة مركزية أو مراكز قوى تستغل ريع الدولة الاقتصادي لخلق حاشية لها ، أو مجموعة زبائن يرتبطون مصلحياً معها ..
لذلك ليس غريبا أن تكون الفترة التي تلت 2003 هي الفترة التي ازدهرت فيها الجماعات المافياوية التي تغولت وأصبحت تريد أن تفرض نفسها في كافة المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ..
ان صعود المافيات إلى مواقع متقدمة في المجتمع وتصدرهم لواجهة سياسية جديدة ، بات ينعكس على القيم الاجتماعية وحتى الثقافة السياسية ، فهذه الطبقة الطفيلية لا يمكن أن تساهم في إنتاج قيم أجتماعية أو سلوك ثقافي ينتمي إلى القيم المدنية ، وإنما هي تعمل على تمييز التافهين في المجتمع ، وتحويلهم إلى شخصيات تحظى بالقبول الاجتماعي !!
مايعزز ماذهبنا اليه في تقيمنا لحالة العراق اليوم ، قد جاء بالأرقام في تقرير أقتصادي نشر في آب 2025 بعنوان : الأموال المسروقة والمهربة من العراق ..
إعداد : بريار – اقتصادي سياسي ..
- المجموع الكلي المقدَر لما تم نهبه أو تهريبه من المال العام العراقي منذ 2003 حتى منتصف 2025 :
1.460 تريليون دولار أمريكي .
هذا الرقم مبني على تقارير :
منظمة الشفافية الدولية ،
ديوان الرقابة المالية العراقي .
هيئة النزاهة العراقية .
تقارير تحقيق دولية (الأمم المتحدة ، صندوق النقد) .
تقديرات متقاطعة من مصارف دولية وسجلات تحويلات مالية . - توزيع الأموال حسب الوجهة والاستخدام :
أ. أموال مهربة إلى الخارج .
التقدير : بين 520 إلى 600 مليار دولار .
أهم الدول التي استقبلت هذه الأموال :
لبنان (مصارف مثل بنك الجمال ، بنك الموارد ، بنك عودة) .
الإمارات (دبي ، أبوظبي) .
تركيا (إسطنبول ، أنقرة) .
إيران (نقدًا أو عبر تجارة مغطاة) .
ب. أموال مكدسة داخل العراق .
التقدير : 200 مليار دولار موزعة على شكل :
عقارات وأراضٍ .
ذهب وممتلكات ثمينة .
عملات صعبة مخزنة خارج النظام المصرفي .
أسهم في شركات باسم واجهات .
ج. أموال داخل النظام المصرفي تستخدم للغسيل ؛
التقدير : 100 مليار دولار تقريباً ، تدار عبر :
مصارف أهلية مرتبطة بأحزاب وفصائل .
صفقات استيراد وهمية .
عقود حكومية مفخخة .
د. أموال ضاعت بسبب العقود الفاسدة أو المشاريع الوهمية :
التقدير : 560 مليار دولار .
أبرز الملفات :
الكهرباء (82 مليار دولار) .
الغذاء والبطاقة التموينية (55 مليار) .
مشاريع البنى التحتية المتوقفة (94 مليار) .
عقود السلاح (26 مليار) .
ملف مزاد العملة (تهريب مباشر يفوق 190 مليار دولار منذ 2004) . - أبرز أدوات التهريب والسرقة :
نافذة بيع العملة في البنك المركزي : تهريب ممنهج عبر مصارف أهلية ، بحماية سياسية .
عقود الشراء الحكومية : شركات واجهة ، تضخيم أسعار ، عدم تنفيذ .
المصارف الأهلية المرتبطة بالأحزاب : منح قروض صورية ، شراء الدولار ، غسيل أموال .
المشاريع الوهمية : موازنات تصرف لمشاريع لا تنفذ أبداً .
الاستيراد الوهمي : فواتير مزورة لاستيراد مواد غير موجودة ، لتبرير إخراج العملة الصعبة .
تحويلات خارجية مغطاة بالسياسة والدين : أموال ذهبت إلى إيران وسوريا ولبنان واليمن بغطاء ديني أو سياسي .. - الجهات المتورطة :
الأحزاب الشيعية والسنية والكردية المشاركة في السلطة .
فصائل مسلحة تمتلك مصارف وشركات .
وزراء ومدراء عامين ومسؤولين كبار .
شخصيات دينية نافذة استخدمت الغطاء العقائدي لتغطية التحويلات .
رجال أعمال وشركات واجهة محسوبة على أطراف سياسية .. - الملاحظة الأخطر :
لا يوجد أي تقرير رسمي موثق حتى الآن تمكن من استرجاع أكثر من 2% من هذه الأموال ، فجميع لجان “استرداد الأموال” كانت صورية أو مشلولة بسبب ضغوط سياسية أو تواطؤ مباشر ..
خلاصة التقرير :
ما سرق من العراق خلال 20 عامًا يكفي لبناء دولة جديدة كاملة البنى ،
فالرقم الحقيقي للنهب يتجاوز ميزانيات 10 دول عربية مجتمعة ..
الاقتصاد العراقي تمت تصفيته داخلياً ، لا خارجياً ، لذا لا يمكن لأي إصلاح أن يبدأ دون كشف الشبكات المالية المرتبطة بالأحزاب وتفكيكها ..
لله درك يا عراق الشرفاء ..