د. عبدالرزاق محمد الدليمي: النظام السياسي في العراق صناعة الاحتلال وغير معني بالشرعية الوطنية

شاهدت قبل ايام لقاء مع بوريس يلسون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق المثير للجدل وهو يصف حجم الجرائم التي ارتكبتها أمريكا وبريطانيا ضد دولة مستقلة عضو مؤسس بالاممم المتحدة عندما قررا كل من بوش الابن وبلير غزو العراق عام 2003 والذي ادخل البلد في مرحلة تاريخية معقّدة ما زالت آثارها تسيطر على الواقع السياسي والاجتماعي حتى اليوم. فالنظام الذي يحكم العراق منذ ذلك الحين لم يكن نتاجًا لإرادة شعبية حرة بل صنيعة مباشرة للاحتلال الأمريكي–البريطاني وهو ما يجعل بنيته وشرعيته مرتبطة عضوياً بالقوى التي جاءت به.
لقد أقرّ الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير ومعهم قادة غربيون آخرون بأن غزو العراق كان خطأً جسيماً. بلير وبعده رئيس وزراء بريطانيا بوريس يلسون وعلى سبيل المثال اعترف بلير أمام لجنة التحقيق البريطانية (تقرير شيلكوت 2016) أن المعلومات عن أسلحة الدمار الشامل كانت غير دقيقة وأن قرار الحرب لم يكن مبرراً. بوش أيضاً وصف الغزو بأنه “خطأ مبني على معلومات خاطئة”. هذه الاعترافات رغم أهميتها السياسية والأخلاقية لم تترافق مع أي مساءلة قانونية أو تعويض للشعب العراقي الذي دفع الثمن الأغلى بمئات الآلاف من الضحايا تدمير شامل للبنى التحتية وصعود الإرهاب الذي لم يعرفه العراق بهذا الشكل من قبل.
المعضلة الأساسية أن النظام السياسي الحالي أسسه الاحتلال بعد تدمير الدولة العراقية التي كانت من افضل دول الشرق الأوسط وتمت عمليات التدمير المخطط لها مسبقا من خلال إطلاق العنان لمجاميع من العملاء والمتخلفين لتعميم المحاصصة الطائفية والعرقية ما جعل مراكز القوة السياسية مرتهنة للجهة التي أنشأتها. الأحزاب والفصائل التي صعدت إلى السلطة جاءت بدعم مباشر من الاحتلال أو بغطاء سياسي وفّرته مؤسساته. لذلك فإن أي تفكير داخل هذا النظام في محاسبة الاحتلال أو المطالبة بحقوق العراق سيعني نسف شرعية وجوده من الأساس وهو أمر لا يستطيع القائمون عليه المخاطرة به.
هذا الارتباط المصيري يجعل العراق يعيش في دائرة التبعية السياسية والاقتصادية. فالقرارات الكبرى –من السياسة الخارجية إلى عقود الطاقة– غالبًا ما تُصاغ تحت تأثير وضغوط خارجية والمصيبة الأكبر هو ذلك الحجم من التوغل الايراني غير المسبوق الذي سمحت به أمريكا ليس حبا بملالي طهران بل بما يتوائم مع مصالحها وخططها بالعراق …وحتى بعد الانسحاب العسكري الأمريكي عام 2011 ظل النفوذ السياسي والأمني حاضرًا سواء عبر الاتفاقيات أو عبر وجود قواعد عسكرية محدودة ويخطأ من يعتقد ان الامريكيين ممكن ان يتركوا العراق (اليابان والمانيا وكوريا الجنوبية وايطاليا وغيرها مازالت محتلة لحد الان من قبل الاستعمار الامريكي؟!؟)
لكن ورغم هذه القيود يبقى أمام العراق خيار استراتيجي مهم حيث يجب على القوى الوطنية المستقلة والمجتمع المدني أن يتبنوا ملف الاحتلال باعتباره قضية حقوقية وأخلاقية أمام العالم. الاعترافات الرسمية لبوش وبلير توفر أرضية قانونية وأخلاقية متينة لبناء ملف متكامل يُعرض على الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والمحاكم الأوروبية. فكما ألزمت الأمم المتحدة العراق بتعويضات ضخمة للكويت بعد 1991 فمن حق العراق المطالبة بتعويضات مماثلة من القوى الغازية التي اعترفت بخطئها.
الخلاصة أن النظام السياسي الذي أوجده الاحتلال عاجز عن مواجهة من أوجده لأنه بذلك يُقوّض شرعيته. ومع ذلك فإن المستقبل قد يتيح لقوى وطنية صاعدة أن تستخدم هذه الاعترافات التاريخية لإعادة الاعتبار للسيادة العراقية وللمطالبة بالعدالة في وجه جريمة كبرى ما زالت آثارها تضرب المجتمع والدولة حتى اليوم.