آراء

نزار العوصجي: الأستعمار الحديث والأستعمار الفكري

أثبت لنا التأريخ أن للأستعمار وجوه عدة ، تختلف باختلاف الزمن والضرف ، ومنها الأستعمار الحديث أو ما يعرف أيضاً بـ الأستعمار الجديد ، ويشمل عدة أنواع ، أبرزها : الأستعمار الأقتصادي ، الأستعمار الثقافي (( الحضاري )) ، والأستعمار السياسي ..
بالإضافة إلى ذلك ، هناك أنواع أخرى مثل الأستعمار الأستيطاني ، الأستعمار الأستغلالي ، الأستعمار البديل ، والأستعمار الداخلي ..
فالأستعمار الأقتصادي يرتكز إلى السيطرة على اقتصاد الدول المستعمرة ، من خلال الشركات متعددة الجنسيات والتجارة العالمية ، بهدف إستنزاف الموارد والتحكم بالأسواق ..
والأستعمار الثقافي (( الحضاري )) يهدف إلى فرض قيم وثقافة الدولة المستعمرة على الدول الأخرى ، من خلال التعليم والإعلام والفنون ، مما يؤدي إلى فقدان الهوية الثقافية للمجتمعات المستعمرة ..
أما الأستعمار السياسي فأنه يرتكز إلى التدخل بالشؤون السياسية للدول الأخرى ، ودعم الأنظمة الموالية للدولة المستعمرة ، وتقويض أي معارضة ..
والأستعمار الأستيطاني يتضمن هجرة واسعة النطاق من الدولة المستعمرة إلى المستعمرة ، بهدف استبدال السكان الأصليين ..
أما الأستعمار الأستغلالي فانه يركز على أستغلال الموارد الطبيعية والبشرية للدولة المستعمرة ، دون الاهتمام بتنميتها ..
والأستعمار البديل الذي يتم فيه دعم مجموعات أستيطانية من خارج الدولة المستعمرة ، لتشكيل مجتمعات موالية للدولة المستعمرة ..
أما الأستعمار الداخلي فانه يتمثل في أستغلال منطقة أو مجموعة داخل الدولة نفسها من قبل السلطة المركزية ..
وغالباً ما تتداخل هذه الأنواع مع بعضها البعض ، وعلى سبيل المثال حين يمارس الأستعمار الأقتصادي بالتزامن مع الأستعمار الثقافي ..
لذا فان الأستعمار الجديد هو مصطلح يستخدم لوصف الأشكال الحديثة للأستعمار التي لا تعتمد على السيطرة العسكرية المباشرة ..
كما ان الأستعمار يهدف في جوهره إلى السيطرة على الموارد والثروات ، سواء كانت مادية أو بشرية ، لصالح الدولة المستعمرة ..

ماتقدم يمثل عرض عام لمفهوم الأستعمار ، وحين نبحث عن أخطر أنواع الأستعمار ، نجد انه الأستعمار الفكري او مايسمى بالغزو الفكري ..
وهو تطلع أمة ما إلى محاولة بسط نفوذها وسيطرتها على أمة أخرى ، والأستيلاء عليها للتحكم بها وتوجيهها نحو طريق معين ، عبر نشر الأفكار المدعومة أعلامياً ، بذلك تكون عقول الناس المستهدفة هي «ساحة المعركة» لهذا الغزو ..
ومن أسلحة الغزو الفكري ، المراكز الفكرية ، وأشاعة الأكاذيب عبر البرامج التلفزيونية والإذاعية ، ونشر المقالات الصحفية والرويات المفبركة ، وتسخير الإنترنت لنشر المدونات الخرافية ، وأستغلال المواقع الحكومية الرسمية ، وتسخير الدبلوماسية التقليدية والعامة ..
من أهم أسباب نجاح الأستعمار الفكري هو ألتفنن في عملية غسيل الدماغ ، ويطلق عليها بالإنجليزية (Brainwashing) ، ويقصد به تحويل الفرد عن أتجاهاته وقيمه وأنماطه السلوكية وقناعاته ، وتبنيه لقيم أخرى جديدة تفرض عليه من قبل جهة ما ، سواء كانت فرداً أو مجموعة أو مؤسسة أو دولة ..
ويندرج مصطلح غسيل الدماغ تحت مسميات مختلفة تحمل المفهوم نفسه مثل : إعادة التقويم ، وبناء الأفكار ، والتحويل والتحرير المذهبي الفكري ، والإقناع الخفي ، والتلقين المذهبي ، وتغيير الاتجاهات ..

من خلال ما تقدم يتبادر إلى الأذهان تسأل مشروع ، هل العراق اليوم دولة مستقلّة ؟
أو دعونا نطرح السؤال بصيغة أخرى ، هل العراق دولة محتلة ؟
الجواب بأختصار : في عام 2003 ، تعرض العراق إلى أحتلال عسكري وسياسي من قبل قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، تلاه فترة من عدم الأستقرار والأحتلال المتقطع ..
نظرياً وبعد ترتيبات خروج القوّات الأميركية المحتلة من البلاد ، يعتبر العراق دولة مستقلة ..
كما وأن عضويته في منظمة الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة ، وكذلك عضويته في المنظمات الإقليمية والدولية المختلفة تشير الى ذلك دون أدنى شك ..
لكن هل العراق عملياً هو دولة مستقلّة ؟
إم أنه لازال يرزح تحت حكم أستعماري غير الأستعمار الأميركي ؟
فرغم أن أعلان الولايات المتحدة رسمياً أنسحابها من العراق في عام 2011 ، إلا أن البلاد شهدت استمراراً للتوترات الأمنية والتدخلات الخارجية ، بالإضافة إلى صراعات داخلية ..
فمن خلال الواقع السياسي غير المستقر بالبلاد ، وضعف الأقتصاد العراقي وأنهيار البنى التحتية وتخلف القطاعات الإنتاجية أو انهيارها بالأحرى ، فأن البلاد هي تحت رحمة أستعمار يتخذ العراق سوقاً لتصريف منتجاته بتواطؤ محلي ..
ومن خلال الغزو الفكري والثقافي والمذهبي الإيراني للعراق ، يعتبر الأستعمار الإيراني للبلاد استعماراً طويل الأمد وذا آثار تفوق ضرر كل أشكال الأستعمار الحديث والقديم ..

أن الخطر الأكبر للاحتلال الإيراني للعراق ليس احتكارها للقرار السياسي اليوم على الرغم من خطورته ، وليس من تعداد ميليشياتها الولائية وغير الولائية التي لا تستطيع الخروج عن الإجماع الشيعي برعاية إيران ، وليس كون العراق سوقاً لبضائعها وبقية بلدان الجوار ، بل يكمن الخطر بأستعمار شعبنا فكرياً وثقافياً ومذهبياً ..
فإيران اليوم تفرض ثقافتها الدينية الطائفية على العراق من خلال مراكزها الثقافية والدينية ومدارسها المنتشرة في محافظات الجنوب حيث المدن الشيعية وخصوصاً مدينة البصرة الحدودية ، كما تقوم عن طريق أذرعها العسكرية (( ميليشياتها )) بالتغييرات الديموغرافية في بلدات محيط بغداد ومحافظتي ديالى وصلاح الدين ، بل أنها قامت بغزو فكري ثقافي لبلدات مسيحية في سهل نينوى !!
كما قامت وتقوم وعن طريق التسهيلات المقدمة لها من قبل السلطات العراقية بتجنيس عشرات الآلاف إن لم يكن أكثر من الإيرانيين بالجنسية العراقية لسببين ، أولهما هو التغيير الديموغرافي بالبلاد ، والآخر هو أنّ المتجنسين هؤلاء لهم ثقل انتخابي وميليشياوي وتجسسي وتخريبي ..
حين نتابع ماتم في ‏كواليس زيارة علي لاريجاني إلى بغداد (( ما لم يُعلن رسمياً )) نستطيع الوقوف على حقيقة مايجري ..
‏فرغم العناوين الدبلوماسية التي أُعطيت لزيارة علي لاريجاني إلى بغداد ، تؤكد مصادر مطلعة أن الهدف الحقيقي أبعد بكثير من التعاون الثنائي أو الملفات الاقتصادية المعلنة ..
‏فلقد جاء لاريجاني محمّلاً بتفويض مباشر من طهران لإعادة ترتيب شبكة التمويل والدعم اللوجستي للفصائل المسلحة المرتبطة بإيران في العراق ..
وتأتي هذه الخطوة بعد تضييق الخناق على طرق الإمداد التقليدية بسبب العقوبات ، وفقدان إيران بعض قنواتها الإقليمية بعد التطورات الأخيرة في القوقاز والخليج ..
‏فالاجتماعات غير المعلنة شملت قادة بارزين من الميليشيات ، وتركزت على إعادة توزيع الأدوار ، وإعادة هيكلة القيادة الميدانية ، وتوفير غطاء مالي عبر واجهات اقتصادية وتجارية في بغداد والبصرة ..
‏إلى جانب نقل جزء من العمليات التمويلية إلى قنوات رسمية عراقية لتفادي الملاحقة الدولية ..
الزيارة حملت أيضاً رسالة طهران لبغداد ، التي تحمل في طياتها ضغوط واضحة تؤكد على أن بقاء الحشد الشعبي والفصائل المسلحة كأداة نفوذ إيراني في العراق هو خط أحمر بالنسبة لطهران ، وأن أي مساس به سيقابل بخيارات تصعيدية ..
ما نخلص اليه أن زيارة لاريجاني لم تكن بروتوكولية ، بل كانت مكملة لزيارة قااني ، الغرض منها إعادة تموضع شامل لإيران داخل العراق ، بهدف ضمان استمرار نفوذها عبر المال والسلاح ، حتى لو تغيّرت الظروف السياسية أو تزايد الضغط الدولي ..
طهران تعلم ان نهايتها باتت قريبة وأن نفوذها قد إنتهى في لبنان وسوريا وسينتهي قريباً في العراق واليمن ..
‏بمعنى أدق ، قيام شرق اوسط جديد خالي من النفوذ الايراني ..

أن المشكلة الكبرى تكمن في مواجهة الشعوب لأحتلال غير عسكري ، أو لنقل احتلالاً غير مباشر ..
خصوصاً إن كان المحتلون يمتلكون أدوات تشكيل منظومة فكرية ثقافية أجتماعية في جزء من البلاد وفرضها على كامل البلاد لوجود حاضنة اجتماعية لهذه المنظومة ..
هذا الشكل من الأحتلال هو ما يواجهه شعبنا اليوم ، إضافة الى العامل الديني المذهبي والقومي والتغييرات الديموغرافية التي تضرب البلاد ..
أستعمار العراق اليوم ليس أستعمار بالشكل المتعارف عليه من حيث أستعمار دولة لأخرى لنهب ثرواتها ، أي ليس كما الأستعمار القديم الذي كان يعمل على الأستيطان في البلد المحتل ونهب ثرواته فقط ، بل أته من نمط أخر تجتمع فيه كافة الأهداف ..
لذا فأن الأستعمار الأقتصادي المتزامن مع الأستعمار الثقافي هو شكل من أشكال الأستعمار الحديث الذي تتبعه إيران ..
وبعيداً عن العاطفة مع التحلي بشيئ من المنطق والنظرة الحيادية للعراق اليوم ، نستطيع أن نقول ولحدود بعيدة من أن العراق يرزح تحت حكم استعماري شرس ..
من خلال الغزو الفكري والثقافي والمذهبي الإيراني للعراق ، لذا فأن الأستعمار الإيراني للبلاد يعتبر استعماراً طويل الأمد وذا آثار تفوق ضرر كل أشكال الأستعمار الحديث منه والقديم ..
ولكي نخرج من هول كارثة هذا الأستعمار ، فإننا بحاجة لنهضة فكرية ثقافية في ظل حكم سياسي رشيد ، وقد يمتد تعافينا من آثار هذا الغزو لعقود ، خصوصاً وأن نسبة الوعي إنحسرت كثيراً أمام شيوع مفاهيم الجهل والتخلف وخصوصاً الدينية منها ، والتي تغذيها إيران عن طريق وكلاؤها بشكل منظم ومدروس ..
من الممكن مواجهة هذا الشكل من الأستعمار في حالة وجود إرادة سياسية متحررة من عقد الماضي ، وقيادات تحترم شعبها ووطنها وتعمل على رفعتهما ..

زر الذهاب إلى الأعلى