آراء

د. علي الكعبي: قوانين أكل الدهر عليها وشرب بلا انتهاء

بعد مرور اكثر من ٢٢عاما عجافا على احتلال العراق لاتزال السلطات التي جاء بها المحتل تطبق قوانين يفترض ان مبرراتها اصبحت طي الماضي مثل استمرار قانوني اجتثاث البعث والمساءلة والعدالة في العراق سيئا الصيت والمحتوى بعد عقدين ونيف من التغيير
بعد مرور أكثر من اثنين وعشرين عامًا على احتلال العراق ودخول العراق مرحلة سياسية جديدة ما زالت القوانين سيئة الصيت والمحتوى والهدف مثل اجتثاث البعث (2003) والمساءلة والعدالة (2008) قائمة ومفعلة رغم أن مبررات صدورها ارتبطت بمرحلة العدالة الانتقالية التي يُفترض أنها انتهت مع إقرار الدستور العراقي عام 2005 وانتخاب حكومة نوري المالكي الأولى عام 2006. استمرار هذه القوانين حتى اليوم يثير أسئلة عميقة حول طبيعة ونوايا واهداف النظام السياسي الذي أوجده الاحتلال في العراق بعد نيسان ٢٠٠٣ ويكشف عن أزمة بنيوية خطيرة في عملية الانتقال الديمقراطي المزعوم وعن توظيف هذه القوانين بما يتجاوز بل ويناقض غاياتها الأصلية.

تحوّل القوانين من أداة عدالة انتقالية إلى سلاح سياسي
تُعد العدالة الانتقالية أداة لمعالجة إرث الأنظمة السابقة في تجارب شعوب اخرى وتحقيق المحاسبة والمصالحة في فترة زمنية محدودة. إلا أن قانون اجتثاث البعث تحوّل سريعًا إلى وسيلة إقصاء سياسي طالت مئات الآلاف من خيرة كفاءات العراق من الموظفين والأكاديميين والعسكريين ما خلق ظاهرة غريبة في المجتمع العراقي تميزت بالإقصاء والتهميش استهدفت شرائح واسعة من العراقيين .
وبإعادة صياغته قانون المساءلة والعدالة سيئ الصيت والمحتوى والاهداف تم تثبيت هذا الإقصاء كاساس عقابي ضمن النظام السياسي وليتحول القانون من وسيلة لطي صفحة الماضي إلى آلية للسيطرة على الحاضر والمستقبل وإعادة تشكيل موازين القوى وإقصاء المخالفين للعملية السياسية او الخارجين عليها او المنتقدين للسلطات !
وفي نظرة تحليلية يمكن إرجاع هذا الاصرار على استخدام هذا السلاح المدمر إلى جملة من الاسباب أبرزها:
-النفوذ الخارجي كعامل تكريس للقوانين
الدور الأمريكي والبريطاني حيث صاغت سلطة الائتلاف المؤقتة بقيادة بول بريمر قانون الاجتثاث، بهدف تفكيك بنية الدولة العراقية السابقة ومنع عودة النخبة الحاكمة. هذا القرار أسس لفكرة أن إزالة البعث ليست مرحلة مؤقتة، بل شرط دائم لإعادة بناء النظام.
-الدور الإيراني: بعد 2003 حيث تبنى النظام في إيران هذه القوانين كوسيلة لإضعاف القوى الكبرى المهمة من الطوائف الأخرى والقوميات ومنع أي مشروع سياسي قد يهدد نفوذها الإقليمي وهو ما عزّز منطق إبقاء القوانين كجزء من سياسة الأمن القومي الإيراني داخل العراق.

-التكريس المتعمد للانقسام الطائفي والمحاصصة
النظام السياسي الذي تشكّل بعد الاحتلال بُني على أساس طائفي وعرقي مما جعل استمرار القوانين أداة لتثبيت هذا الانقسام. فإلغاء قوانين الاجتثاث يُعتبر لدى بعض القوى الطائفية الشيعية “خطرًا استراتيجيًا” يهدد مكاسبها السياسية. وبذلك أصبحت هذه القوانين جزءًا من بنية السلطة وليست مجرد تشريعات عابرة.

-فشل المؤسسات الدستورية والقضائية
رغم أن الدستور العراقي نصّ على تحقيق المساواة والمواطنة إلا أن غياب استقلالية القضاء وضعف البرلمان وهيمنة الأحزاب حال دون مراجعة التشريعات الاستثنائية. هذه الفجوة القانونية عززت استمرارية المرحلة الانتقالية وجعلت العراق يعيش في إطار تشريعي “ما بعد الحرب” حتى بعد مرور عقدين.

-التوظيف الانتخابي والسياسي
تحولت قوانين الاجتثاث إلى ورقة انتخابية رابحة للأحزاب الحاكمة حيث يتم استدعاء فزاعة “عودة البعث” لكسب الأصوات وتحشيد الشارع الشيعي. هذا الاستخدام الشعبوي ساعد على شرعنة استمرار القوانين رغم فقدانها قيمتها القانونية والواقعية.

-غياب مشروع وطني للمصالحة
لم يشهد العراق منذ 2003 مشروعًا حقيقيًا للمصالحة الوطنية بل اقتصرت المحاولات على مبادرات شكلية (اسقاط فرض ليس الا)!؟هذا الغياب جعل قوانين الاجتثاث جزءًا من إدارة الصراع الداخلي حيث تستفيد بعض الأطراف من إبقاء الجروح مفتوحة لتعزيز نفوذها السياسي.
إن استمرار قوانين اجتثاث البعث والمساءلة والعدالة بعد أكثر من عقدين يؤكد أن العراق لم يخرج من منطق المرحلة الانتقالية وأن النظام السياسي الحالي بُني على أسس إقصائية تعيق بناء دولة المواطنة. هذه القوانين لم تعد أداة لتحقيق العدالة بل أصبحت رمزًا للأزمة البنيوية التي يعيشها العراق حيث تتغلب مصالح القوى الحزبية والإقليمية على منطق العدالة والدستور.
إن تجاوز هذه المرحلة يتطلب إصلاحًا دستوريًا وقضائيًا شاملاً وإطلاق مشروع وطني للمصالحة يعالج الماضي دون أن يرهن الحاضر والمستقبل لخيارات الاحتلال وسياسات الانتقام السياسي.
لذلك لن تستقيم الأوضاع في العراق المحتل مالم تضغط أمريكا وبريطانيا دولتا الاحتلال باتجاه تغيير الواقع الكارثي وفي مقدمة ذلك الغاء كل القوانين المانعة لعودة كل العراقيين لممارسة حياتهم الطبيعية كأعضاء فاعلين في بلدهم والتخلص من هذه المسرحيات البائسة التي تستغلها فئة صغيرة من المنتفعين لتعطيل حياة مجتمع بكاملة !؟!؟

زر الذهاب إلى الأعلى