آراء

د. عبدالرزاق محمد الدليمي: الشرق الأوسط على صفيح ساخن.. انهيار دول وتفكك بالنظام العربي

الاستاذ الدكتور عبدالرزاق محمد الدليمي

يشهد الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة حالة غير مسبوقة من الانفجار السياسي والاجتماعي،ما جعل المنطقة تبدو وكأنها تقف فعلاً على “صفيح ساخن”. هذا الصفيح ليس فقط نتيجةالصراعات المسلحة والانقسامات الطائفية والإثنية، بل أيضاً انعكاس لانهيار منظومة الدولة الوطنية في أكثر من بلد عربي، وتفكك النظام العربي الرسمي الذي كان، ولو شكلياً، يحكم العلاقات البينية بين الدول العربية في الماضي.

جريمة احتلال العراق

لا يمكن فهم اشتعال الأوضاع في الشرق الأوسط دون التوقف عند لحظة مفصلية غيّرت مسار المنطقة برمّتها:جريمة احتلال العراق عام 2003. لقد فتح هذا الاحتلال الباب على مصراعيه أمام انهيار بنية الدولة الوطنية العراقية، وأسّس لحالة من الفراغ الأمني والسياسي، سرعان ما تحولت إلى نموذج للفوضى قابل للتكرار في دول أخرى. فبمجرد تفكيك مؤسسات الدولة، وتفجير الصراعات الطائفية، وإقصاء مكونات اجتماعية كاملة من المشهد السياسي، تحوّل العراق إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، ومركزًا لظهور تنظيمات متطرفة مثل القاعدة وداعش، التي امتد تأثيرها إلى سوريا وليبيا واليمن.

كما شكّل الاحتلال سابقة خطيرة في شرعنة التدخلات الخارجية، الأمر الذي ألهم قوى إقليمية غير عربية لتوسيع نفوذها تحت شعارات حماية الطوائف أو مكافحة الإرهاب، ما أدى إلى تعميق الانقسامات الداخلية في عدد من الدول العربية. بل يمكن القول إن احتلالالعراق كاقوى قوة عربية فتح الطريق أمام تفكك النظام العربي التقليدي، وسمح بتآكل السيادة الوطنية في أكثر من بلد.

إن ما نراه اليوم من حروب أهلية، وتفتت للهوية، وتدخلات أجنبية متشابكة، ليس إلا امتدادًا لزلزال العراق الذي لا تزال توابعه تهزّ المنطقة حتى اللحظة وستستمر لعقود قادمة مالم تتغير الاوضاع  الكارثية فيه .

مرحلة الفوضى

لقد دخلت المنطقة منذ الغزو الأميركي الامبريالي للعراق عام 2003 مرحلة جديدة من الفوضى الاستراتيجية، حيث بدأت تتآكل الهياكل التقليدية للدولة، وبدأت قوى غير تقليدية كالميليشيات، والجماعات المسلحة، كفواعل فوق دوليةبالسيطرة على أجزاءمهمة من الأراضي والقرار، مما أدى إلى تحويل العديد من الدول إلى ساحات صراع إقليمي ودولي بالوكالة. العراق، سوريا،لبنان اليمن،ليبيا، والسودان، كلها نماذج حية لدول تفككت مؤسساتها المركزية، وأصبحت رهينة لتوازنات معقدة لا تخضع لمنطق الدولة بل لمنطق القوة والانقسام.

تفكك المنظومة العربية

في المقابل، شهد النظام العربي، ممثلًا في جامعة الدول العربية، عجزًا تامًا عن القيام بدور فعّال في مواجهة الأزمات. هذا العجز لا يتعلق فقط ببنية الجامعة وتقييد صلاحياتها، بل يُعبّر عن غياب الإرادة السياسية الجماعية لدى الأنظمة العربية، وانشغال كل دولة بصراعاتها الداخلية أو بأولوياتها الخاصة. فبدلًا منأن يكون هناك موقف عربي موحد تجاه القضايا المصيرية، باتت المواقف العربية متضاربة، بل وأحيانًا متناقضة إلى حد التواطؤ في بعض الملفات.

تزامن هذا التفكك الداخلي مع صعود قوى إقليمية غير عربية لا تريد الخير لهم مثل إيران وتركيا وإسرائيل، التي استغلت الفوضى العربية لتوسيع نفوذها الاستراتيجي في المنطقة. لاسيما بعد غياب العراق القوي فإيران عززت حضورها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بينما عززت تركيا تدخلها في الشمال العراقي و السوري والليبي، وسعت إسرائيل إلى فرض أمر واقع سياسي وأمني في فلسطين المحتلة بدعم من قوى دولية كبرى. كل ذلك جعل من الشرق الأوسط ميدانًا لصراعات مركّبة، تُدار فيه الحروب بوسائل متعددة، من الحصار الاقتصادي إلى الانقلابات، ومن الإعلام إلى التجويع، وصولًا إلى التدخلات العسكرية المباشرة.

في هذا السياق، لا يمكن فصل الأزمة الفلسطينية عن المشهد العام، فغزة اليوم تعاني من مجاعة ممنهجة، وحصار تجاوز حدّ العقوبات الجماعية ليصبح جريمة حرب مكتملة الأركان. ورغم كل الكوارث الإنسانية، لا يزال الموقف العربي الرسمي عاجزًا عن اتخاذ خطوة فعلية، في حين أن الشارع العربي في غليان مستمر يعبر عن سخطه في مواقع التواصل أكثر من الميادين العامة بسبب القمع المتصاعد.

ازمة ثقة

كل هذه العوامل دفعت قطاعات واسعة من الشباب العربي إلى فقدان الثقة ليسفقط بأنظمتهم السياسية، بل بفكرة الوطن ذاته. ففي ظل الانقسامات والتهجير والنزوح والبطالة، تحوّلت الهجرة إلى خيار وحيد، وتحولت فكرة الانتماء إلىعبء نفسي وثقافي، بينما تتصاعد موجات الشعبوية والطائفية والكراهية، ماينذر بمزيد من الانفجارات المستقبلية.

بوادر مقاومة جديدة

لكن رغم هذا المشهد القاتم، هناك بوادر مقاومة جديدة تظهر من بين الأنقاض. منظمات المجتمع المدني، المبادرات الشبابية، والنخب الثقافية المستقلة، تحاولأن تبني سردية مختلفة للمستقبل، تتجاوز منطق الدولة الريعية والسلطةالشمولية. هناك أصوات بدأت تُطالب بإعادة تعريف الدولة العربية، لا علىأساس عرقي أو طائفي، بل على أسس المواطنة والعدالة والكرامة. وهذا ما يطرحالسؤال الأهم: هل يمكن للشرق الأوسط أن ينهض من تحت الركام؟ أم أن هذاالصفيح الساخن مرشح لأن يبقى مشتعلاً لعقود قادمة؟

الإجابة لا تزال مفتوحة، لكنها حتمًا تتطلب إعادة نظر شاملة في مفهوم النظامالعربي، وفي طبيعة الدولة، وفي علاقة الشعوب بحكوماتها، وفي مواقف النخبمن قضايا المصير. فما لم تتغير البنية العميقة التي تنتج الأزمات، فإن الانهيارسيستمر، وإن بقيت الدول العربية تراهن على الخارج لحمايتها أو دعمها، فإنهاستظل رهينة لإرادات الآخرين.

وفي النهاية، فإن الشرق الأوسط لن يبرد صفيحه إلا عندما تستعيد شعوبه حقهافي تقرير مصيرها، بعيدًا عن التبعية، والقمع، والخطابات الزائفة. وحتى ذلكالحين، ستبقى المنطقة عنوانًا لأزمة مستمرة، ومختبرًا مفتوحًا لإعادة تشكيلالجغرافيا السياسية في العالم المعاصر.

زر الذهاب إلى الأعلى