مقالات رئيس التحريرموضوعات رئيسية

د. علي الجابري: صمت المرجعية وسؤال الدم حول مجزرة قصر الرحاب!

لا تمر ذكرى الرابع عشر من تموز في العراق من دون أن تنكأ جراحاً قديمة وتعيد إشعال جدلٍ لا يخبو.. الحدث الذي هزّ البلاد عام 1958، حين أطاحت مجموعة من الضباط الشباب بالنظام الملكي، وقتلت العائلة المالكة بدم بارد، بقي في وجدان العراقيين بين من يراه “يوم التحرر من الرجعية”، ومن يراه “وصمة عار دموية في تاريخ الدولة العراقية الحديثة”.

السؤال الذي يعود بقوة كل عام: هل كان ما حدث في قصر الرحاب ثورة أم مجزرة؟ وإذا كان انقلابًا ثوريًا، فهل يُبرِّر ذلك الطريقة التي أُُعدِم فيها الملك الشاب فيصل الثاني وأسرته؟ وهل كان البديل السياسي حقًا أكثر عدالة وأقرب إلى تطلعات الشعب؟

في كل مرة تُنشر فيها صور الملك فيصل الثاني ووالدته الملكة نفيسة (التي حاولت حماية ابنها برفع المصحف فوق رأسها) وخاله الوصي عبد الإله وخالته عابدية، بالإضافة الى رئيس الوزراء نوري السعيد، وهم مضرجون بدمائهم، تنهض الذاكرة الجمعية للعراقيين، لا لترثي ملكًا راحلًا فحسب، بل لتسائل المعنى السياسي والأخلاقي لما جرى. لا يتعلق الجدل فقط بأحداث الماضي، بل هو انعكاس لانقسام حاد حول ما تمثّله الجمهورية وما تمثله الملكية، وحول القيم التي تأسس عليها كل نظام.

اللافت أن الانقسام لا يقتصر على عامة الناس، بل يمتد إلى النخب الثقافية والدينية. فالمرجعية الشيعية في النجف، ممثلة آنذاك بالسيد محسن الحكيم، لم تُصدر أي إدانة صريحة أو حتى تعزية بخصوص مقتل العائلة المالكة، رغم بشاعة المشهد ووحشيته. بل بالعكس، فقد وجّه المرجع الحكيم رسالة تهنئة لقادة الانقلاب جاء فيها:

«إني أحمد الله… وأسأله أن يجعلَكم من قادة العدل وأنصار الحق… لقد سرّني ما يبلغني منكم من خطوات سديدة جبارة في هذه الآونة… لذلك أبارك لكم فيما أولاكم الله به، وأدعو لكم بحسن التوفيق لخدمة الدين والإسلام والمحافظة على الصالح العام.»

هذا النص، الموجه إلى عبد الكريم قاسم، يكشف بوضوح ترحيب المرجعية بانتهاء النظام الملكي، دون أدنى إشارة إلى ما جرى من سفكٍ للدماء أو اغتيالٍ جماعي لعائلة كانت تحكم البلاد.

غير أن العلاقة مع قائد الانقلاب عبد الكريم قاسم لم تدم طويلًا، إذ انقلبت المرجعية عليه لاحقًا بسبب محاولاته تحجيم دورها، وتنامي نفوذ الشيوعيين في عهده، ما جعلها تعيد تموضعها سياسياً واجتماعياً.

لكن يبقى السؤال الحرج حاضرًا حتى اليوم: لماذا صمت المرجع الأعلى عن مذبحة بهذا الحجم؟ ولماذا لم يُصدر ولو تذكيرًا بقيم الإسلام في تحريم الغدر والقتل غير القضائي، حتى وإن كان راضيًا بزوال النظام؟

إن هذا الصمت – الذي أُلبِس ثوب الحكمة أو التحفّظ – ساهم موضوعيًا في شرعنة العنف السياسي، وأعطى الانطباع بأن “التغيير بالقوة” لا يحتاج إلى غطاء أخلاقي أو ديني واضح، طالما أن النتائج تبرر الوسائل. وهو ما ظهر لاحقًا في سلسلة الانقلابات التي شهدها العراق.

والأدهى أن هذا الجانب من التاريخ لا يزال محرّمًا على النقاش.
لماذا لا تُطرح مواقف المرجعيات الدينية التاريخية للنقاش الجاد؟
لماذا نُحاط بهالة “القداسة السياسية والدينية” التي تمنع الأجيال من فهم من صمت، ومن تواطأ، ومن بارك، ومن تجاهل؟

ومن اللافت أن الدراسات الأكاديمية الكبرى التي تناولت ثورة 14 تموز ودور المؤسسة الدينية، مثل عمل المؤرخ حنا بطاطو في كتابه المرجعي الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق، وتحليل المفكر فالح عبد الجبار في الحركة الشيعية في العراق، لم تُسجل أي تصريح أو موقف معلن من المرجع محسن الحكيم يُدين فيه مذبحة العائلة المالكة.

لقد ركز بطاطو على التكوين الطبقي والسياسي، بينما ناقش عبد الجبار تطور العلاقة بين المرجعية والجماعات السياسية، دون أن يأتيا على ذكر أي رفض ديني أو فتوى تخص الحدث الدموي.

إن هذا الغياب في التوثيق الأكاديمي نفسه يؤكد أن صمت المرجعية لم يكن مجرد تقدير سياسي عابر، بل تحول إلى فراغ أخلاقي مستمر في الذاكرة الوطنية، لا يُطرح للمساءلة، ولا يُسمح بمراجعته، ولا حتى بوضعه في سياقه النقدي.

ليس الهدف من هذه التساؤلات المساس بمكانة المرجعية، بل إعادة تعريفها كفاعل بشري وسياسي له دور ومسؤولية وتأثير، وليس كرمز محايد خارج التاريخ.

إن بناء عراق متصالح مع ذاته يبدأ أولًا بالمصالحة مع تاريخه، لا بتمجيده بشكل أعمى أو شيطنته بالكامل، بل بفهمه ومساءلته من كل جوانبه – بما في ذلك صمتُ من كان يُفترض أن يكون صوتَ الضمير.

رئيس تحرير يورو تايمز

زر الذهاب إلى الأعلى