د. عبدالرزاق محمد الدليمي: تدهور التعليم في العراق بعد الاحتلال.. الأسباب، الأهداف والنوايا

ينسب إلى ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا اثناء الحرب العالمية الثانية انه في احدى اجتماعات مجلس الوزراء البريطاني قبيل انتهاء الحرب طلب من وزرائه تقديم ملخص لاوضاع وزارتهم واشتكى الجميع من الظروف التي تسببت بها الحرب على اداء وزارتهم وهنا قاطعهم تشرشل متسائلا كيف وضع التعليم فأجابوه جيد وكيف وضع القانون فأجابوه جيد فقال اذن وضعنا جيد
ذكرت فحوى هذه الواقعةً للتأكيد على اهمية التعليم والقانون في كل المجتمعات لاسيما التي تتعرض للنكبات والحروب والاحتلال كما حدث في بلدنا فالتعليم مفتاح التغيير والتطور وعنوان المدنية والحضارة خصوصا في بلد مثل العراق عرف بتقدمه العلمي ورقي مستوى وكفاءة التعليم فيه قبل ٢٠٠٣.
كان العراق حتى في تسعينيات القرن الماضي أي اثناء الحصار الظالم عليه يُعد من الدول الرائدة في مجال التعليم عربياً وإقليمياً، فقد أسس نظاماً تعليمياً واسعاً ومجانيًا، أنتج أجيالاً من العلماء والمفكرين. لكن بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، بدأ الانحدار الخطير في مستوى التعليم، حتى وصل إلى حافة الانهيار الشامل. لم يكن ذلك نتيجة ظروف عرضية أو أخطاء عابرة، بل نتاج تخطيط ممنهج لضرب أهم مقومات النهوض الوطني.
الأسباب الحقيقية لتدهور التعليم بعد الاحتلال
تفكيك الدولة ومؤسساتها التربوية
منذ الأيام الأولى للاحتلال، عمدت سلطات الاحتلال إلى تفكيك وزارتا التعليم العالي والتربية ومؤسساتهما، وفُصل آلاف المعلمين وأساتذة الجامعات اصحاب الخبرة والكفاءات تحت ذريعة “اجتثاث البعث”، ما تسبب في نزيف هائل للخبرات والكوادر المؤهلة.
الفساد المالي والإداري
تم تحويل وزارتي التربية والتعليم إلى ساحة للمحاصصة الطائفية والفساد، حيث باتت المناصب تُباع، والعقود التعليمية تذهب لشركات وهمية، بينما أهملت البنية التحتية للمدارس والجامعات.
تسييس المناهج وتحريف الهوية
تمت صياغة المناهج بما يخدم مشروع الطائفية والانقسام، عبر إلغاء السردية الوطنية الجامعة، وزرع روايات تقسيمية موجهة. فغاب الحس الوطني والهوية العراقية عن المناهج، وحضرت الميول الفئوية والطائفية.
الانفلات الأمني وهجرة العقول
العنف الطائفي والاغتيالات المنظمة دفعت آلاف الأكاديميين والمدرسين إلى الهجرة أو الاعتزال، وهو ما ترك فراغاً قاتلاً في الجامعات والمدارس.
غياب الرؤية والإرادة
لم تطرح الحكومات المتعاقبة بعد 2003 أي استراتيجية حقيقية لإصلاح التعليم، بل كانت تُدير الوزارات على الاغلب من خلال الولاءات والمصالح الحزبية، لا عبر كفاءة أو تخطيط.
الأهداف الخفية وراء تدمير التعليم
منع تشكل وعي وطني مقاوم
المجتمع المتعلم هو الأخطر على المحتل وأعوانه، لأنه يفرز نخبة قادرة على فهم الواقع ورفض الاحتلال. لذا كان ضرب التعليم هو ضرب للعقل الجماعي.
تسهيل السيطرة الطائفية
بتجهيل الشعب وتحويل التعليم إلى أداة طائفية، يمكن ترسيخ النفوذ الميليشياوي والسياسي القائم على الجهل والخرافة والولاء الأعمى.
إفراغ العراق من كفاءاته
بتهجير العلماء والمفكرين وإضعاف الجامعات، يتم ضمان أن يبقى العراق سوقًا للجهل، لا مركزًا للإبداع. وهو ما يخدم أجندات إقليمية ودولية.
النوايا التي تحرك هذا التدمير
إبقاء العراق ضعيفًا ومجزأً
تدمير التعليم يعني تدمير المستقبل، وهو ما يخدم مشروعاً طويل الأمد لبقاء العراق ضعيفًا، منقسمًا، قابلًا للتبعية السياسية والاقتصادية.
إعادة تشكيل هوية العراقي المشوهة
عبر تجهيله وتبديل مناهجه وتغيير لغته التعليمية ومفاهيمه التاريخية، يُعاد تشكيل المواطن الجديد، لا بوصفه عراقيًا موحدًا، بل كائناً تابعًا لهوية طائفية أو قومية ضيقة.
تحويل العراق إلى بيئة طاردة للكفاءات
وذلك بإهمال التعليم العالي والبحث العلمي، مما يدفع النخبة إلى الهجرة أو العزلة، ويبقي الميدان خاليًا لمن لا يمثلون أي قيمة معرفية حقيقية.
التعليم مفتاح التغيير
إن النهوض الحقيقي لا يبدأ من السياسة ولا من الاقتصاد، بل من التعليم. فأي مشروع وطني تحرري يجب أن يبدأ بإعادة بناء النظام التربوي، عبر استعادة الكفاءات الوطنية، تحرير المناهج من الطائفية،ضمان استقلالية المؤسسة التعليمية عن الأحزاب،واستثمار التعليم كأداة للمصالحة الوطنية والنهضة الشاملة.
فالتعليم في العراق لم يتدهور صدفة، بل دُمّر عمدًا. وما لم نُدرك ذلك، سنبقى ندور في حلقة التخلف والفوضى إلى ما لانهاية