آراء

د بندر عباس اللامي: حين تتقاطع العمامة مع المال والسياسة والدين

منذ احتلال العراق نيسان ٢٠٠٣ تراجعت القيمة الاعتبارية للمعممين نتيجة ماقاموا به ولا يزالون من افعال مشينة وخروقات يندى لها جبين البشر ويتبرأ منها الدين الإسلامي الحقيقي الحنيف .
لم تعد العمامة في العراق بعد احتلاله مجرد رمز ديني يُستدل به على رجال الدين وطلبة الحوزة، بل تحولت إلى أداة متعددة الوظائف، تتسلل عبرها المصالح السياسية، وتُغلف بها شبكات المال، وتُمرّر من خلالها مشاريع الهيمنة الفكرية والاجتماعية. في بلدٍ يعاني من فوضى هوية ما بعد الاحتلال، حيث دخلت العمامة حلبة الصراعات ليس كقوة إصلاح او توعيه للأفراد بل كطرف فاسد متورط في مشهد التيه والانقسام الذي كانوا سبب بوجوده بعد الاحتلال .

العمامة من المنبر إلى المنصب
في العقود الماضية، خاصة بعد 2003، صعد رجال الدين إلى الواجهة ليس بوصفهم مرشدين أخلاقيين أو مصلحين اجتماعيين، بل كفاعلين سياسيين ومؤسسين لأحزاب وميليشيات. وتحولت العمامة من رمزٍ للزهد والتقوى، إلى علامة تجارية حزبية تتفاوض على الوزارات والعقود، وتبتلع المناصب باسم “الشرعية الدينية”. لقد سقطت مسافة طويلة بين الحوزة والمنصة البرلمانية، وبين الفتوى والمقاولة السياسية.

المال الديني السحت الحرام بين الخُمس والاستثمار
فتحت العمامة باباً عريضاً للتمويل تحت غطاء “الحقوق الشرعية”، ليتحول الخُمس والزكاة والهبات إلى أموال طائلة تُدار خارج الرقابة، وتُضخ في مشاريع تجارية، وشبكات إعلامية، ومكاتب سياسية. هذا المال، الذي يُجمع باسم الدين، كثيرًا ما يُنفق لتعزيز النفوذ لا لدعم الفقراء، ولتمكين الأحزاب لا لتمكين الأمة. وهو ما حوّل المؤسسات الدينية إلى إمبراطوريات مالية متضخمة، لا فرق بينها وبين شركات المال السياسي.

الدين في خدمة السياسة لا العكس
بعد الاحتلال شهد العراق ظاهرة اعتقدنا جميعا اننا تخلصنا منها بعد زوال الإقطاع وتخادمهم مع المعممين سيما بجنوب العراق قبل التغيير الذي حدث بالعراق تموز ١٩٥٨ …..المفارقة الكبرى أن الدين، الذي من المفترض أن يكون مرجعًا يضبط جنون السياسة، أصبح خادمًا مطيعًا لها. بل إن العمائم باتت تنسج الفتاوى على مقاس المصلحة الحزبية والطائفية والمالية ، وتلوّن الخطاب وفق خارطة التحالفات الإقليمية. ومن يراقب المشهد عن قرب، يرى كيف انقسم الخطاب الديني إلى ولاءات متصارعة فهناك عمائم مع طهران، وعمائم مع جماعة النجف وعمائم مع واشنطن ولندن وعمائم تسبح في فلك الفساد.

ضياع البوصلة المجتمعية
في ظل هذا التيه، فقد الشارع العراقي ثقته بما تمثله العمامة. لم تعد تُلهمه كما كانت، ولم تعد توحده كما يُفترض بها. بل تحولت إلى رمز للفرقة أحيانًا، وإلى أداة قمعية أو تبريرية في أحيانٍ أخرى. والكارثة أن الصراع بين العمائم نفسه لم يعد فكريًا أو فقهيًا، بل بات مصلحيًا ومناطقيًا ومليشياويًا، يزيد الطين بلة.

بين الصحوة والمحاسبة
ليس من العدل أن نعمم الاتهام، فهناك عمائم شريفة دفعت ثمن الصمت، أو قاومت الانحراف بوسائلها المحدودة ووقفت بوجه الاحتلال و العملاء لكن المطلوب اليوم هو أكثر من النية الطيبة المطلوب هو تغيير جذري داخل المؤسسة الدينية نفسها، وإعادة تعريف دور رجل الدين، وفرض الشفافية على المال الديني المنهوب ، ومنع التداخل السافر بين الفتوى والسياسة.

العراق اليوم لا يحتاج إلى عمائم تبارك القتل أو تزين الاستبداد أو تتاجر بالوجدان، بل إلى ضميرٍ دينيّ شجاع يجرؤ على قول الحق، حتى لو خسر السلطة. التيه الذي تعيشه العمامة العراقية لن ينتهي إلا حين تعود إلى حقيقتها وحجمها ودورها كمرشدة للناس لا متسلطة عليهم، خادمة للفكرة لا خادمة للكرسي، واعظة للحق لا شريكة في الباطل.
للأسف اصبحت ظاهرة “تيه العمايم” في العراق، أو بمعنى آخر، انغماس بعض رجال الدين (المعمّمين) في دهاليز المال المشبوه والسياسة المتشابكة، قضية معقدة ومثيرة للجدل، تتقاطع فيها خيوط الدين، بالسلطة، بالثراء غير المشروع. هذه الظاهرة لا تمسّ سمعة المؤسسة الدينية فحسب، بل تُلقي بظلالها على المشهد السياسي والاجتماعي برمته، وتُسهم في تعميق أزمة الثقة بين المواطن والنخب الحاكمة والدينية.

المال الحرام: شبكة من الفساد
يبدأ تيه العمايم غالباً من بوابة المال الحرام. ففي بيئة تعاني من الفساد المستشري، وتكثر فيها فرص الثراء السريع عبر القنوات غير المشروعة، يجد البعض من ذوي النفوذ الديني أنفسهم أمام إغراءات مالية يصعب مقاومتها. هذه الأموال قد تأتي من العمولات والرشاوى: في المشاريع الحكومية، أو تسهيل المعاملات، أو حتى في صفقات مشبوهة.
واستغلال النفوذ الديني لفرض سطوة أو الحصول على امتيازات خاصة، سواء كانت أراضي، أو عقود، أو مناصب.والأموال المخصصة للعمل الخيري والديني حيث يتم تحويلها أو جزء منها لأغراض شخصية، وهو ما يُعدّ من أبشع صور الفساد.
هذا الانغماس في المال الحرام لا يقتصر على الثراء الشخصي، بل يمتد ليشمل بناء إمبراطوريات مالية تابعة لشخصيات دينية أو لجهات تتستّر خلف ستار الدين، مما يُعطي هذه الأموال غطاءً شرعياً زائفاً، ويُصعّب عملية المحاسبة والمساءلة.

السياسة: صراع النفوذ والسلطة
لا يمكن فصل ظاهرة تيه العمايم عن المشهد السياسي العراقي المعقّد. فالدين في العراق لم يكن يوماً بمعزل عن السياسة، بل غالباً ما كان لاعباً أساسياً فيها. ومع التحولات السياسية التي شهدها العراق بعد عام 2003، باتت مشاركة رجال الدين في العملية السياسية أمراً واقعاً، سواء بشكل مباشر عبر الأحزاب الدينية، أو بشكل غير مباشر من خلال التأثير على القرار السياسي.
يُسهم تيه العمايم في السياسة من خلال تشكيل الكتل والأحزاب الدينية: التي تسعى للوصول إلى السلطة والحفاظ عليها، مما يُدخل رجال الدين في دهاليز المحاصصة والمساومات السياسية.واستغلال المنبر الديني لتوجيه الرأي العام، والتأثير على الانتخابات، وتبرير مواقف سياسية معينة، حتى وإن تعارضت مع المبادئ الدينية والأخلاقية.وتكوين شبكات مصالح تربط بين رجال الدين والسياسيين ورجال الأعمال، مما يُعزز الفساد ويُعرقل أي محاولة للإصلاح.
هذا الاندماج بين الدين والسياسة، عندما يفتقر إلى النزاهة والتقوى، يُصبح أداة لخدمة المصالح الشخصية والفئوية، بدلاً من خدمة المصلحة العامة، مما يُفقد الثقة بالمؤسسات الدينية ويُضعف شرعية العملية السياسية.
الدين: ضياع القدوة والرسالة
المُفارقة الأكبر في ظاهرة تيه العمايم هي كيف يُمكن أن يتحول من يحمل لواء الدين إلى جزء من مشكلة الفساد والابتعاد عن القيم التي يُفترض به أن يدعو إليها. عندما ينخرط المعمّم في المال الحرام والسياسة الفاسدة، فإنه يُشوّه صورة الدين ويُظهر المؤسسة الدينية وكأنها مُجرّد واجهة لتحقيق مصالح شخصية، مما يُبعد الناس عن التدين الحقيقي.ويُفقد دوره كقدوة فالمواطن الذي يرى رجل الدين غارقاً في الفساد، يفقد الثقة في رسالته وخطابه، وبالتالي تقل قدرته على توجيه المجتمع وإصلاحه.ويُعمق أزمة الثقة بين رجل الدين والمواطن، وهي أزمة تُهدد بتقويض البناء الاجتماعي والأخلاقي، وتُمهد لظهور تيارات متطرفة تُشكك في كل شيء.
إن تيه العمايم ليس مجرد سقوط فردي لبعض رجال الدين، بل هو انعكاس لأزمة مجتمعية أوسع نطاقاً، تتطلب معالجة شاملة تتجاوز الجوانب الأمنية والقانونية لتصل إلى إعادة بناء القيم

جميع المقالات تعبر عن رأي كتابها ولا تمثل يورو تايمز

زر الذهاب إلى الأعلى