د بندر عباس اللامي: الدين والسياسة في العراق المحتل.. صراع العقل والهيمنة

يُسلّط تصريح معمم اسمه القبنچي عن خشيته من فقدانهم الحكم بالعراق الضوء على إشكالية تداخل الدين بالسياسة، مستذكرين وجهة نظر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ومثالًا من الواقع العراقي. حيث يرى فوكو أن رجل الدين حين يلجأ إلى “الخطاب البدائي” في السياسة، لا يسعى للإقناع المبني على العقل والحجة، بل يهدف إلى الهيمنة، مستعيضًا عن التفكير المنطقي بالنصوص المقدسة، وعن البرهان بالقداسة، وعن الحقيقة بالاعتقاد المطلق. هذه الرؤية الفوكوية تضع يدها على جوهر المشكلة في العديد من السياقات السياسية التي يتغلغل فيها الخطاب الديني المتخلف بشكل يُفقد السياسة عقلانيتها وحيادها.
يدلل تصريح للمدعو القبنچي بأن المحافظات الغربية تريد انتزاع الحكم من الشيعة بسبب تحديث بطاقات الناخب، يُعد تجسيدًا حيًا لقاع التخلف، حيث يتم استبدال النقاش السياسي العقلاني حول آليات الانتخابات والمشاركة الديمقراطية بخطاب يُثير المخاوف الطائفية ويزرع بذور الشك. فتحديث بطاقات الناخب هو إجراء إداري يُفترض أن يكون محايدًا ويهدف إلى ضمان شفافية العملية الانتخابية ونزاهتها. ربط هذا الإجراء بنية “انتزاع الحكم” هو بمثابة إحلال للقداسة أو “الاعتقاد المطلق” والقبنچي هنا يشيع اعتقاد بأن هناك مؤامرة طائفية محل “الحقيقة” وهي أن تحديث البطاقات هو إجراء فني.
والقبنچي عندما يدعو إلى حرمان “هؤلاء” من المشاركة في الانتخابات لأنهم “لا يتأمنون”، فهو يُظهر بذلك ذروة هذا الخطاب البدائي الذي حذر منه فوكو. وهذا المنطق الاهوج الطائفي البعيد عن العقلية العراقية لا يقوم على أي أساس عقلاني أو قانوني، بل يستند إلى الريبة والتخوين، وهي أدوات للهيمنة وليست للإقناع. عندما تُصبح فئة من المواطنين “غير مؤتمنة” لمجرد انتمائها الجغرافي أو الطائفي المفترض، فهذا يعني أن الحجة قد استُبدلت بالقداسة الزائفة التي تُبرر الإقصاء، وأن “العقل” قد تراجع أمام “النص” غير المعلن الذي يُفتَرَض أنه يُحرّم مشاركة الآخر.
إن جوهر المشكلة يكمن فيمن حولوا عمليتهم السياسية، التي يجب أن تكون ميدانًا للنقاش والتنافس على البرامج والأفكار، إلى ساحة للصراع الوجودي المبني على الهويات الضيقة والمخاوف المتبادلة. عندما يُصبح هدف رجل الدين – أو من يرتدي عباءة الدين – هو الهيمنة بدلاً من الإقناع، فإن النتيجة الحتمية هي تفكك النسيج الاجتماعي، تقويض أسس الديمقراطية، وإعاقة بناء دولة المواطنة التي تحتضن الجميع على قدم المساواة.
لمواجهة هذا، يتوجب على المجتمع أن يُعزز من دور العقلانية في الخطاب العام، وأن يُطالب بتقديم الحجج الدامغة بدلاً من الاكتفاء بالتصريحات الغامضة التي تثير الشقاق. كما يجب أن يُفصل بين الدين كقيمة روحية وأخلاقية، وبين السياسة كممارسة مدنية تتطلب الحياد والشفافية والتجرد من التحيزات الطائفية أو المناطقية. فالديمقراطية الحقة لا تُبنى على الإقصاء، بل على الشمولية واحترام حق الجميع في المشاركة، بغض النظر عن انتماءاتهم.
آليات فصل الدين عن السياسة في العراق المحتل
مسألة فصل الدين عن السياسة في العراق معقدة للغاية وتواجه تحديات جمة، لاسيما بعد عام 2003 الذي شهد صعود قوى سياسية ذات مرجعية دينية قوية. على الرغم من أن الدستور العراقي المعاق لعام 2005 ينص على أن الإسلام دين الدولة الرسمي ومصدر أساس للتشريع، إلا أنه لا يتبنى نموذج الدولة الثيوقراطية (الدينية بالكامل)، بل يحاول أن يوازن بين المرجعية الدينية ومبادئ الدولة المدنية الحديثة.
ان هناك جملة من التحديات الرئيسية التي تقف أمام فصل الدين عن السياسة في العراق منها ماجاء بالنص الدستوري فالمادة الثانية من الدستور العراقي تنص على أن الإسلام دين الدولة الرسمي، وأنه مصدر أساس للتشريع، ولا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام. هذا النص يُفسر بشكل مختلف من قبل الأطراف المختلفة، مما يفتح الباب أمام تدخل الدين في صياغة القوانين والسياسات. يضاف إلى ذلك عبأ اكبر وهو النفوذ السياسي للمرجعيات الدينية وخاصة في النجف، حيث التأثير السلبي على الشارع العراقي والتدخل في القرار السياسي. فبعض فتاوى المراجع يمكن أن تحشد الجماهير بشكل يتقاطع مع مصلحة البلاد وتؤثر على توجهات الرأي العام، مما يجعل القوى السياسية تتزلف لرجال الدين وتسعى لكسب ودها أو التأثر بها.
وهناك ايضا الأحزاب السياسية ذات المرجعية الدينية فبعد احتلال العراق 2003، تشكلت العديد من الأحزاب السياسية التي تستمد شرعيتها وأيديولوجيتها زورا وبهتانا من الدين وهو برئ منهم، وتم ايصالها بشكل قوي الى البرلمان والحكومة. هذه الأحزاب تمزج كل كوارثها بالخطاب الديني ، مما يصعب الفصل بين المجالين.
كما برزت بالعراق ظاهرة هجينة هي الطائفية السياسية حيث استفحلت بعد 2003، حيث أصبح الانتماء الديني والمذهبي عاملًا رئيسيًا في تشكيل التحالفات وتقاسم السلطة. هذا يعيق بناء دولة المواطنة التي تتجاوز الانتماءات الفرعية.
وعلى الرغم من وجود تيارات علمانية ومدنية، إلا أن ثقافة الدولة المدنية الشاملة التي تضع المواطنة فوق أي انتماء آخر ما زالت في طور التكوين وتواجه مقاومة من القوى التي تستفيد من الوضع الراهن.
ولا ننسى جانب خطير جدا وهو ان العراق منذ احتلاله اصبحت فيه الدولة ومؤسساتها في اضعف حالاتها كذلك ضعف المؤسسات المدنية في العراق، والفساد المستشري، الذي فتح الباب أمام تدخل أطراف غير رسمية، بما في ذلك المرجعيات الدينية، لملء الفراغ وتقديم الخدمات أو توجيه الرأي العام.
ولم تنتهي المشاكل عند هذه الحدود بل يشهد العراق اوضاع مزرية بسبب التدخلات الإقليمية والدولية وبعض القوى الإقليمية والدولية تستخدم ورقة الدين والطائفية لتحقيق مصالحها في العراق، مما يزيد من تعقيد المشهد ويصعب من إمكانية فصل الدين عن السياسة.
آليات فصل الدين عن السياسة
على الرغم من التحديات، يمكن اقتراح بعض الآليات والمبادئ التي يمكن أن تساهم في تحقيق فصل أكبر بين الدين والسياسة في العراق في مقدمتها اما كتابة دستور جديد او اصلاح ما امكن الدستور المعوق الحالي وإعادة تفسيره باتجاه الدولة المدنية حيث يمكن أن يتم تفسير النصوص الدستورية المتعلقة بالدين بطريقة تضمن حماية حقوق جميع المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم، وتؤكد على سيادة القانون المدني. ويجب ايضا تطوير القوانين المدنية وسن وتطبيق قوانين مدنية حديثة تضمن المساواة الكاملة بين المواطنين، وتحمي الحريات الشخصية والعامة، وتحد من سلطة القضاء الشرعي في المسائل المدنية.
وتحييد المؤسسات الدينية حيث يجب أن تكون المؤسسات الدينية مستقلة عن الدولة وغير ممولة منها، وأن يقتصر دورها على الجانب الروحي والتوجيه الأخلاقي، دون التدخل في الشؤون السياسية والإدارية للدولة.
ولابد من تعزيز دور الأحزاب المدنية والديمقراطية ودعم وتقوية الأحزاب والتنظيمات السياسية الوطنية التي تقوم على أساس المواطنة والكفاءة، وتقدم برامج سياسية واقتصادية واجتماعية بعيدًا عن الخطاب الطائفي أو الديني.
يضاف إلى ذلك تثقيف المجتمع ونشر ثقافة المواطنة والدولة المدنية عبر وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والمجتمع المدني، والتأكيد على أهمية احترام التنوع وقبول الآخر.وإصلاح النظام الانتخابي من خلال تصميم نظام انتخابي يشجع على تشكيل تحالفات وطنية عابرة للطوائف، ويقلل من هيمنة الأحزاب القائمة على أساس ديني أو طائفي.
كما يجب العمل الدؤوب المخطط علميا لإصلاح التعليم وتطوير المناهج التعليمية لتعزيز التفكير النقدي، والتسامح، واحترام حقوق الإنسان، والمواطنة، بدلاً من التركيز على الخطابات الطائفية أو الإقصائية.
وإعادة الهيبة والقوة للقضاء المستقل وضمان استقلالية القضاء ونزاهته، ليصبح الفيصل في النزاعات السياسية والاجتماعية، ولتطبيق القانون دون تمييز أو تأثير من أي جهة دينية أو سياسية وتفعيل دور منظمات المجتمع المدني عبر تشجيع ودعم منظمات المجتمع المدني التي تعمل على تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنوع، وتراقب أداء الحكومة وتضغط من أجل الإصلاحات.
ولاننسى تنظيم اليات سليمة لتحديد دور المرجعية الواعي وابعادها عن التدخل بالسياسة وعلى المرجعية الدينية أن تدرك أهمية دورها في الحفاظ على السلم الأهلي والاستقرار، وأن تبتعد عن التدخل المباشر في تفاصيل العمل السياسي، وأن تركز على التوجيه والإرشاد العام الذي يخدم مصلحة الوطن والمواطنين.
في المحصلة، فصل الدين عن السياسة في العراق هو عملية طويلة ومعقدة تتطلب إرادة سياسية حقيقية، وجهودًا مجتمعية واسعة، وتغييرًا تدريجيًا في العقليات والثقافة السائدة. الهدف ليس “إلغاء الدين” أو “محاربته”، بل هو تحديد مجال كل منهما لضمان دولة عصرية، ديمقراطية، ومستقرة، تحفظ حقوق وكرامة جميع مواطنيها.
جميع المقالات تعبر عن رأي كتابها ولا تمثل يورو تايمز