د بندر عباس اللامي: اغتيال العراق

رغم أن مصطلح “اغتيال بلد” هو تعبير مجازي يعكس وجهة نظر سياسية ثاقبة تجاه الأحداث التي مر بها العراق منذ احتلاله في نيسان ٢٠٠٣ . إلا ان التحليل العلمي المنطقي يؤكد أن العراق تعرض لعمليات أضرت ببنيته ودولته، متأثرًا بعوامل داخلية وخارجية معقدة سيما بين التدخل الخارجي والصراعات الداخلية
تعتبر الفترة التي تلت عام 2003، تاريخ غزو العراق من قبل القوات الأمريكية والبريطانية، نقطة تحول جوهرية في تاريخ البلاد. يرى الكثيرون أن هذا الغزو لم يكن مجرد تغيير نظام، بل كان بداية لعملية “اغتيال” ممنهج للدولة العراقية بمفهومها الحديث، حيث تضافرت عوامل الاحتلال والصراعات الداخلية والنفوذ الإقليمي لتقويض أسس الدولة ومستقبلها.
الاحتلال الأمريكي-البريطاني: بداية “التدمير البنائي”
بينما زعمت القوى الغازية أن هدفها هو تحرير العراق من نظام شمولي وبناء ديمقراطية مستقرة، في اثبتت الوقائع على ارض الواقع على مدى ٢٢سنة بأن الاحتلال الأمريكي-البريطاني كان له تأثير مدمر على بنية الدولة العراقية وعلى شعبه.
من اكبر الجرائم التي ارتكبتها سلطات الاحتلال قرار حل الجيش العراقي والمؤسسات الأمنية وكان قرارًا كارثيًا، حيث أدى إلى تفريغ الدولة من أحد أهم أركانها، وترك فراغًا أمنيًا هائلاً استغلته الجماعات المسلحة والميليشيات. كما أن تسريح مئات الآلاف من الجنود والضباط خلق جيشًا من العاطلين عن العمل كذلك كان قرار اجتثاث حزب البعث سيء الصيت والمضمون الذي يهدف إلى تفكيك النظام السابق، إلا ان عملية تطبيقه بشكل واسع النطاق وبشكل عشوائي عدائي انتقامي في اغلب الأحيان، أدى إلى إقصاء الجزء الأكبر من الكفاءات العلمية المتميزةً والخبرات الإدارية والعسكرية من مؤسسات الدولة. هذا الأمر قوض بشكل كبير البنية التحتية الإدارية للعراق وزاد من حالة الفوضى وعدم الكفاءة.
على الرغم من الإنفاق الهائل، اكثر من ترليون دولار فشل الاحتلال والحكومات التي فرضها على الشعب في توفير الأمن والاستقرار وإعادة بناء البنية التحتية المدمرة. أدت هذه الفشل إلى حالة من السخط الشعبي وتزايد العنف الطائفي، مما ساهم في تفكك النسيج الاجتماعي العراقي.
ومن الظواهر الملفتة للانتباه بعد الاحتلال تفشى ظاهرة الفساد بشكل غير مسبوق في العراق بعد عام 2003، حيث ساهم غياب الرقابة الفعالة والفراغ الإداري في خلق بيئة خصبة للاستغلال المالي وسرقة الأموال العامة، مما أنهى قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها.
كما عمل النفوذ الايراني على خلق الانقسامات والتفتيت بعد الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق وبرزت إيران كقوة إقليمية تسعى لملء الفراغ وتعزيز مصالحها. كان للتمدد الإيراني غير الطبيعي تأثير سلبي كارثي على انهاء القرار العراقي وساهم في تعميق الانقسامات الطائفية.وفي مقدمتها دعم الميليشيات المسلحة العميلةً التي تسيطر عليها إيران وتدعمها وتمولها من اموال الشعب العراقي التي يتم تحويل المليارات منها كل شهر وهذه المليشيات الوقحة تؤدي ادوارا بارزًةً في تاجيج الصراعات الطائفية وفي صراع النفوذ السياسي. هذه الميليشيات، التي تعمل خارج إطار الدولة، مما قوض سلطة الحكومة الفاشلة أصلا وزادت من الفوضى.
سعت إيران بوقت مبكر إلى ممارسة نفوذ كبير على الطبقة السياسية العراقية من خلال دعم الأحزاب والسياسيين، الذين سبق ان تم تجنيدهم مما أثر على عملية صنع القرار في البلاد وجعلها عرضة للتأثيرات الخارجية.
كما أدت سياسات الأطراف، الموالية للاحتلال لملالي طهران سواء الداخلية أو الخارجية، إلى تعميق الانقسامات الطائفية بين ابناء الشعب الواحد وحولوه إلى مسميات الشيعة والسنة والأكراد، مما انهى الوحدة الوطنية ومهد الطريق لظهور المليشيات المسلحة التابعة لايران
وبدأت الصراعات الداخلية باعتبارها النزيف الذاتي حيث لا يمكن فصل اغتيال العراق عن هذه الصراعات الداخلية المستمرة التي تفاقمت بفعل التدخلات الخارجية وفي مقدمتها الهيمنة الإيرانية على الطبقة السياسية الفاسده التي تتحكم بمقدرات العراق وثرواته لمصلحتها الذاتية وخدمة اسيادهم بالخارج!
بعد احتلال العراق وتفتيت الدولة القوية، دخلت القوى السياسية التي جاءت مع الاحتلال وخلف دباباته في صراع مرير على السلطة والموارد المالية والطبيعية وانتشرت ظاهرة الفساد غير المسبوق ونهب ثروات البلد بطريقة وقحة ، مما أدى إلى عدم الاستقرار السياسي وشلل في الدولة التي تم تغيبها بالكامل
أدى المنهج الفاشل التي تبنته القوى السياسية، التي سلطها الاحتلال على رقاب العراقيين حيث ركزت على الهويات الفرعية (الطائفية والعرقية) بدلاً من الهوية الوطنية، إلى تفاقم الانقسامات وتأجيج الصراعات.
كما ساهمت الفوضى الأمنية وضعف الدولة بل وغيابها والصراعات الطائفية في خلق بيئة فعالة لنمو الجماعات المتطرفة لاسيما المليشيات الفارسية وتسهيل مهمة داعش، التي استغلت الفراغ الأمني والعصبيات الطائفية لتوسيع نفوذها وتدمير ماتبقى من البنية التحتية الاجتماعية والمادية للعراق.
إن اغتيال بلد مثل العراق يشير إلى عملية مركبة ومعقدة، لم تكن نتاج عامل واحد، بل تضافرت فيها عوامل متعددة: من الغزو العسكري الذي فكك بنية الدولة، إلى السياسات الخاطئة بعد الاحتلال، مرورًا بالنفوذ الإقليمي الذي غذى الانقسامات، وصولًا إلى الصراعات الداخلية التي استنزفت البلاد. والنتيجة النهائية كانت دولة ضعيفة، ممزقة، وغير قادرة على تحقيق الاستقرار والازدهار لمواطنيها. إعادة بناء العراق تتطلب تجاوز هذه الأزمات المتراكمة وبناء دولة قوية ذات سيادة حقيقية، بعيداً عن تأثيرات التدخلات الخارجية والصراعات الداخلية.
جميع المقالات تعبر عن رأي كتابها ولا تمثل يورو تايمز