تحقيقات ومقابلات

السلاح النووي الفرنسي… هل يتحقق «حلم ديجول»؟

كل يوم يؤكد أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يسير نحو تحقيق حلم أسطورة المقاومة الفرنسية الجنرال شارل ديجول، الذي ظل حتى أخر يوم في حياته يحلم بأن تكون فرنسا ليس فقط «قاطرة الاتحاد الأوروبي» بل «الرقم الصعب» في المعادلة الدولية من«الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي»، ولذلك اتخذت فرنسا مساراً مختلفاً يضمن لها «استقلال وسيادة القرار» في استخدام السلاح النووي، وبناء «عقيدة نووية» فرنسية خاصة لا تخضع لمواقف وحسابات التحالف مع الولايات المتحدة أو حتى حلف دول شمال الأطلسي «الناتو»، حيث كانت للجنرال ديجول – الذي أصبح أول رئيس للجمهورية الفرنسية الخامسة بعد هزيمة ألمانيا النازية – رؤيته وحكمته التي تقوم على أن الولايات المتحدة سوف تنسحب يوماً ما من أوروبا، وعلى الأوروبيين أن يكونوا مستعدين للاعتماد على أنفسهم، وعدم قبولهم ما أسماه «الابتزاز الأمريكي»، لذلك قرر الرئيس ديجول الانسحاب من حلف «الناتو» بداية من عام 1963، رافضاً محاولات واشنطن جر فرنسا والأوروبيين في معاركها ضد الشيوعية وفي فيتنام، وفي نفس الوقت بدأ تجهيز فرنسا عسكرياً للاعتماد على ذاتها وعلى قدراتها العسكرية الخاصة.

قنبلة سياسية
يوم الخامس من شهر مارس الجاري ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «قنبلة سياسية» من العيار النووي عندما شرح في خطاب للأمة الفرنسية استعداد باريس لتمديد «مظلتها النووية» التي تضم 290 رأساً نووية إلى كل الدول الأوروبية، وذلك رداً على تقارب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع «غريم أوروبا» الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومطالبة وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيث الشهر الماضي – في اجتماع قاعدة رامشتاين الألمانية- لزملائه الأوروبيين بإنفاق نحو 5% من الناتج القومي على الشؤون الدفاعية وشراء الأسلحة الأمريكية حتى يدافع عنهم 100 ألف جندي أمريكي ينتشرون في نحو 600 قاعدة عسكرية في القارة العجوز برفقة 530 قنبلة نووية «تكتيكية» أمريكية جرى توزيعها في 4 دول أوروبية أعضاء في «الناتو».
اقتراح ماكرون وجد صدى كبيراً في أوروبا خاصة في ألمانيا من جانب المرشح الأوفر حظاً لمنصب المستشار فريدش ميرتس الذي يعتزم تعزيز «المظلة النووية الأوروبية» التي تضم نحو 520 رأساً نووية منها 295 رأساً في فرنسا، و225 سلاحاً نووياً بريطانياً، يدعمه في ذلك أكثر من نائب في الحزب الاتحادي الديمقراطي المسيحي الألماني الفائز في الانتخابات الألمانية، والذي يستعد لتشكيل الحكومة الجديدة، والذين قالوا بصراحة «إن على ألمانيا أن تعتمد على المظلة النووية الأوروبية بدلاً من مظلة الحماية الأمريكية» خصوصاً بعد التوبيخ الذي تلقاه الأوروبيون من نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس أثناء مؤتمر ميونيخ للأمن في الشهر الماضي، ولقاء نائب الرئيس الأمريكي بأليس فايدل زعيمة حزب اليمين المتطرف «البديل من أجل ألمانيا»، الأمر الذي ينظر إليه الألمان بأنه تطور خطير في العلاقات الأوروبية الأمريكية.
فإلى أي مدى يمكن تحويل مقترح ماكرون من حلم إلى واقع؟ وهل أوروبا جاهزة «للاستدارة الكاملة» بعيداً عن «الاعتمادية» على واشنطن؟ وكيف تنظر دول الجناح الشرقي من أوروبا وحلف «الناتو» التي تسمى بمجموعة بودابست لهذه المقترحات الجريئة؟
خصوصية فرنسية
يمثل إعلان الرئيس ماكرون بفتح باب النقاش لمد المظلة النووية الفرنسية لحماية القارة الأوروبية «لحظة مفصلية» في الأمن الأوروبي، ويمكن أن يقود مع الأسلحة النووية البريطانية إلى تحقيق «توازن استراتيجي» غير مسبوق على الساحة الأوروبية، وتعتمد وجهة نظر ماكرون على أن العقيدة الفرنسية تنص على أنه يمكن لباريس استخدام أسلحتها النووية عندما تتعرض مصالحها الحيوية للتهديد، وهنا يرى ماكرون مصالح فرنسا الحيوية في أبعادها الأوروبية، ولهذا قال في خطاب سابق أمام طلاب جامعة السوربون في 25 إبريل الماضي «أنا أؤيد إطلاق هذا النقاش الذي يجب أن يشمل الدفاع المضاد للصواريخ، والأسلحة بعيدة المدى، والسلاح النووي لدى الدول التي تملكه أو التي لديها سلاح نووي أمريكي على أراضيها، دعونا نضع كل شيء على الطاولة، وننظر إلى ما يحمينا حقاً بطريقة موثوق بها»، ووفق رؤية فريق ماكرون فإن فرنسا تستطيع أن تحقق هذا الهدف عبر مجموعة من المسارات والأدوات وهي:

أولاً: الإرادة السياسية
يعد اقتراح الرئيس ماكرون امتداداً لرؤية فرنسية تقوم على «الخصوصية الأمنية والعسكرية الفرنسية»، فعلى الرغم من احتلال النازية لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، وخروج فرنسا من الحرب بخسائر فادحة إلا أن باريس أدركت مبكراً ضرورة أن تحفظ لنفسها «مكاناً خاصاً» في معادلة الأمن الأوروبي، ورغم اتجاه الدول الأخرى في أوروبا مثل ألمانيا إلى «الاعتمادية الأمنية والعسكرية» الكاملة على الجيش الأمريكي والأسلحة النووية الأمريكية، إلا أن فرنسا خطت لنفسها مساراً خاصاً ومستقلاً وصنعت لها مكانة خاصة أوروبياً ودولياً، ولهذا كانت فرنسا دائماً هي التي تبادر بطرح الأفكار وقراءة المستقبل، وعبر عن هذا بوضوح الرئيس ماكرون عندما اقترح في 11 نوفمبر 2018 بناء «جيش أوروبي موحد»، وكرر أكثر من مرة وصفه لحلف «الناتو» بأنه «مات إكلينيكياً»، وحاجة أوروبا الواضحة أن تكون لها قدراتها العسكرية المستقلة بعيداً عن الولايات المتحدة.
ثانياً: المثلث النووي
تملك فرنسا كافة القدرات لتوصيل وتحميل القنابل النووية إلى أهدافها حتى لو كانت إلى عدو يبعد 8000 كلم من الأراضي الفرنسية أو من مكان الإطلاق، وخلال السنوات الماضية نجحت باريس في تصنيع «المثلث النووي» عبر تصنيع الطائرات والقاذفات والغواصات النووية، فلدى باريس اليوم طائرات الرافال متعددة المهام التي تستطيع أن تطلق الصواريخ التي تحمل رؤوساً نووية، كما لدى باريس طائرات ميراج 2000 التي تحمل صواريخ برؤوس نووية، وتمتلك فرنسا أيضاً أجيالاً مختلفة من الغواصات النووية التي يمكنها أن تطلق الأسلحة النووية من أعماق البحار والمحيطات.
كما تتمتع باريس بإمكانيات هائلة في القدرة على إطلاق صواريخ تحمل رؤوساً نووية، فالصناعة العسكرية الفرنسية تفتخر بالصواريخ البالستية عابرة القارات من طراز «إم فايف 1»، والتي تحملها الغواصات النووية، ويصل مدى هذه الصواريخ لأكثر من 8 آلاف كلم، وهو ما يعطي فرنسا وضعاً استراتيجياً فريداً يمكنها من خلاله توجيه ضربة نووية لعدو على مسافة بعيدة جداً حتى لو تعرضت لضربة نووية.
ولدى فرنسا صواريخ لها سمعة دولية يمكن إطلاقها من طائرات الرافال أو الميراج 2000، ومنها على سبيل المثال صاروخ «أية أس أم بي- إيه»، والذي يمكن أن يستهدف مواقع وأهدافاً على بعد 300 كلم بعد إطلاقه من الميراج2000 أو الرافال، وهو صاروخ أرض جو أسرع من الصوت، وترى الرئاسة الفرنسية أن هذا المشروع يمكن أن يزيد المشتريات الأوروبية من السلاح الفرنسي، وهو هدف تعرض لضربة قاصمة عندما ألغت أستراليا عقداً بقيمة 50 مليار دولار لشراء غواصات فرنسية لصالح شراء غواصات نووية من الولايات المتحدة وبريطانيا في عام 2021
ثالثاً: مرونة العقيدة النووية
يشير مقترح الرئيس ماكرون لتوسيع المظلة النووية الفرنسية لتشمل شركاءه الأوروبيين إلى ما تتمتع به «العقيدة النووية الفرنسية» من مرونة، ففي السابق كانت العقيدة النووية الفرنسية «أكثر عدوانية» من العقيدة النووية الأمريكية نفسها، لأنها كانت لا تمانع في ضرب التجمعات المدنية للعدو، وقتل أكبر عدد من البشر لمنع العدو من استكمال استهدافه للأراضي والشعب الفرنسي، لكن جرى تطويرها مؤخراً لتستهدف فقط «مراكز القيادة» للعدو، هذه المرونة تقول إن توسيع المظلة النووية الفرنسية الى باقي الدول الأوروبية لن يكون خياراً مستحيلاً، ومع النقاش الذي أطلقه الرئيس ماكرون ويدعمه المستشار الجديد لألمانيا، واستعداد بريطانيا لفتح حوار بشأنه يمكن للعقيدة النووية الفرنسية التي جرى تصميمها في الأساس للدفاع عن أراضي وسيادة الجمهورية الفرنسية أن تمتد لحماية 500 مليون مواطن في دول الاتحاد الأوروبي.
التحديات
العقد الأخير شاهد على عدم نجاح المقترحات والأفكار التي كان يمكن أن تحقق «استقلالاً استراتيجياً» حقيقياً للقارة الأوروبية، وهو ما يؤكد على وجود الكثير من التحديات أمام المقترح الفرنسي، وأبرز هذه التحديات هي:
1- الخلافات الأوروبية
رغم أن المقترح الفرنسي جاء وسط زخم وشعور أوروبي قوي بالحاجة للتحرك بشكل أسرع مما كان عليه الأمر قبل عودة دونالد ترامب مرة أخرى للمكتب البيضاوي، إلا أن الواقع يؤكد أن أوروبا ليست على قلب رجل واحد فيما يتعلق بمقترح ماكرون حول السلاح النووي، نعم هناك دفعة قوية وغير متوقعة للمقترح من ألمانيا وهولندا واستعداد للنقاش من جانب إسبانيا وبريطانيا، لكن على الجانب الآخر من أوروبا هناك من يثق ويفضل «المظلة الأمنية الأمريكية» التي حافظت على دعم ثابت لأوروبا لأكثر من 75 عاماً.

ومن هذه الدول مجموعة بودابست التي تضم ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا والمجر وبولندا وبلغاريا ورومانيا والتشيك وسلوفاكيا، وهذه الدول ترفض أي قرار بالتخلي عن الدعم العسكري من الولايات المتحدة التي تنفق نحو تريليون دولار سنوياً على جيشها، فرئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان يدعو أوروبا للنقاش والحوار مع الرئيس ترامب بدلاً من البحث في بدائل قد تكون غير مضمونة على المدى الاستراتيجي والطويل.
2- رفض الأحزاب الفرنسية
الرفض لمقترح ماكرون لم يأت فقط من دول متشككة في شرق وشمال شرق أوروبا، بل من الداخل الفرنسي نفسه، فقد رفضت زعيمة اليمين الفرنسي مارين لوبان مشاركة فرنسا لقدراتها النووية من أجل حماية أوروبا، وتقوم وجهة نظر حزب التجمع الوطني الذي تقوده لوبان على أن الردع النووي الفرنسي يجب أن يظل مستقلاً وخاضعاً للسيادة الوطنية، كذلك الأمر بالنسبة لفرانسوا كزافييه بيلامي الذي كان رئيساً لقائمة حزب الجمهوريين في الانتخابات الأوروبية العام الماضي.
وقال إن مقترح ماكرون يصيب عصب السيادة الفرنسية، وإذا كان هذا موقف الجمهوريين واليمين فإن مقترحات ماكرون لم تجد أي قبول كذلك لدى اليسار بعد أن قال حزب «فرنسا الأبية» اليساري: إن ماكرون وجه للتو ضربة جديدة لمصداقية الردع النووي الفرنسي، وإن فرنسا لا ينبغي أن تشعل نزاعاً نووياً لصالح دول أخرى، كما أن الكثير من الصحف الفرنسية نقلت عن سياسيين آخرين قولهم إن تصريحات ماكرون غير واقعية وتهدف إلى تخويف الشارع الفرنسي، وتساءلوا «إذا كانت روسيا لم تستطع بعد 3 سنوات هزيمة أوكرانيا فكيف لها أن تحاول غزو بولندا أو ألمانيا قبل أن تصل إلى فرنسا؟»، وهناك رأي عام واسع في أوروبا يقول إن روسيا كانت طوال 400 عام جزءاً من الأمن الجماعي الأوروبي، وإن الحل يكون بالحوار مع موسكو، وليس بتشكيل تحالفات نووية ضد الكرملين الذي يملك بالفعل أكثر من 5000 قنبلة نووية جاهزة للإطلاق.
3- البنية التحتية
تحتاج الدول الأوروبية إلى أن تتقاسم تكاليف بناء بنية تحتية للأسلحة النووية، ويمكن التغلب على هذا التحدي بالاستفادة من نموذج استخدام «الناتو» ترتيبات تقاسم الأسلحة النووية مع دول مثل ألمانيا وبلجيكا وهولندا، وهو ما يسمح لهذه الدول باستضافة الأسلحة النووية الأمريكية كجزء من «الناتو»، لكن هذا الأمر سوف يحتاج إلى التوصل لاتفاقيات شديدة التعقيد بشأن بروتوكولات القيادة والتحكم، بما يضمن احتفاظ فرنسا بالسيطرة على ترسانتها النووية، وفي الوقت نفسه يساهم في تقديم ضمانات أمنية للدول الأوروبية.
رابعاً: توسيع دائرة المخاطر
عندما تتوسع فرنسا في بسط مظلتها النووية على 27 دولة في الاتحاد الأوروبي، فإن معنى هذا هو توسيع دائرة المخاطر، لأن فرنسا في تلك الحالة سوف تصبح هدفاً لأي دولة تتعرض لضربة نووية فرنسية دفاعاً عن دولة أوروبية أخرى.
قد تكون تصريحات ومواقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن حماية أوروبا تحدياً كبيراً وجديداً لم تعرفه القارة العجوز منذ نحو 8 عقود، لكنه يوفر في ذات الوقت، ولأول مرة فرصة جادة وحقيقية ليفكر الأوروبيون في كيفية الاعتماد على النفس في قضية ظلت تشغلهم على الدوام، وهي هل يمكن أن يحقق الأوروبيون الأمن بأنفسهم؟

نقبلا عن الخليج الاماراتية

زر الذهاب إلى الأعلى