تحقيقات ومقابلاتموضوعات رئيسية

“ميلوني” بائعة الخضار التي أصبحت أول رئيسة للوزراء في إيطاليا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية

أول رئيسة للوزراء في بلادها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت أصغر من يدخل البرلمان عندما كان عمرها لا يزيد على 26 عاماً، وأصبحت وزيرة وعمرها 28، واجهت الكثير من التنمر وهي طفلة لأنها كانت تعاني من السمنة في ذلك الوقت، لكنها استطاعت أن تحول التحدي إلى فرصة، ومنذ ذلك الوقت طورت حسها في النقد، وأصبحت قادرة على التحدي والإصرار وعدم الرضوخ للخصوم السياسيين.
واجهت الكثير من التحديات ليس فقط لأنها ولدت في حي العمال والفقراء «حي غارباتيلا» في روما، بل لأن أمها انفصلت عن أبيها وتحملت عبء تربيتها، لهذا عملت هي في أشغال بسيطة مثل بيع الخضار، وتربية الأطفال، وحتى العمل كنادلة في مقهى.
تحولت كلماتها إلى أغنية راب، وهي الأغنية التي تقول فيها «أنا جورجيا، أنا امرأة»، عملت صحفية، وفي ذات الوقت كانت تترأس جناح الشباب الذي قادت به حملة قوية ضد نظام التعليم في بلادها، وفي عام 2012 أسست حزبها «فراتيلي ديتاليا» (أخوة إيطاليا)، وحصلت في انتخابات 2018 على 4.5% فقط من أصوات الناخبين، لكن بعد مرور 4 سنوات فقط حصلت على نحو 26% ما ساعدها لتكون أول امراة تشكل الحكومة في تاريخ بلادها، لكنها لم تتوقف عند ذلك بل فاز حزبها ب 27% في انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو الماضي، وهو ما جعلها أقوى زعيمة محافظة في أوروبا كلها.

أتحدث عن جورجيا ميلوني رئيسة وزراء إيطاليا التي باتت وجه أوروبا الجديد، ويرى الجميع أنها على طريق المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل لتقود أوروبا في المرحلة المقبلة خصوصاً مع دخول الحكومة الألمانية نفق الانتخابات المبكرة والتوقعات بعدم تشكيل حكومة جديدة قبل الصيف القادم، وعدم الاستقرار الذي تعيشه الحكومة الفرنسية وقرب رحيل الرئيس الفرنسي ماكرون عن الحكم في مايو 2027، وهو ما جعل ميلوني تتصدر المشهد الأوروبي بعد أن نجحت في تجاوز كل الشكوك والمخاوف التي طرحها البعض عندما تسلمت الحكم. فكيف تحولت جورجيا ميلوني إلى أيقونة أوروبية؟ وما هي التحديات التي تواجهها في المرحلة القامة؟ والى أي مدى يمكن لميلوني أن تكون جسراً بين الرئيس دونالد ترامب والقادة الأوروبيين الذين لم يتوافقوا بعد مع السيد الجديد للبيت الأبيض.

رؤية جديدة
خلال فترة قصيرة من وجودها في قيادة الحكومة الإيطالية بددت جورجيا ميلوني كل المخاوف التي أحاطت بها من قبل، بل قدمت نموذجاً في التعاطي الإيجابي مع مختلف التحديات عبر سلسلة من النجاحات في الداخل الإيطالي وعلى المستويين الإيطالي والأوروبي، وأخذت هذه النجاحات المسارات الآتية:
أولاً: تصحيح القناعات الخاطئة
عندما فازت ميلوني بتشكيل الحكومة الإيطالية وضعها البعض في خانة الزعماء المتطرفين، وتحدثوا بسرعة عن جذور حزبها وقالوا عنها إنها تؤمن بالفاشية وغيرها من الاتهامات، ووصل الأمر أن البعض وضعها بجانب مارين لوبن زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا، وحزب البديل من أجل ألمانيا، وهو حزب شديد التطرف في ألمانيا، لكن بسرعة أذهلت الجميع أثبتت أنها محافظة لكنها تختلف تماماً عن الأحزاب الفاشية واليمينية المتطرفة في أوروبا، وأنها أقرب إلى أحزاب المحافظين في بريطانيا، والحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، ووصفت نفسها وحزبها بالمحافظين الإيطاليين، وقالت أكثر من مرة: ليس هناك شك أن قيمنا هي قيم محافظة، ونؤمن بالحرية الفردية، والقطاع الخاص في الاقتصاد، وحرية التعليم، والدور المركزي للأسرة في المجتمع، وضرورة حماية الحدود من الهجرة غير الشرعية، والدفاع عن الهوية الوطنية الإيطالية. وكانت ميلوني واضحة تماماً في رفض الأفكار اليسارية، والرفض القاطع للفاشية والعنصرية، لكنها على غرار الرئيس الأمريكي ترامب وصديقه المقرب إيلون ماسك ترفض ميلوني عمليات الإجهاض، ورفعت شعار: الله والوطن والعائلة.
ثانياً: «الإيطاليست»
عندما كانت جورجيا ميلوني وحلفاؤها في الأحزاب الأخرى يستعدون لتشكيل الحكومة اتهم كثيرون في المؤسسات الأوروبية ميلوني ونائبها ماثيو سالفيني زعيم حزب الليجا (رابطة الشمال) بأنهما سوف يأخذان بلادهما بعيداً عن الاتحاد الأوروبي وأنهما على غرار بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني الأسبق سوف يقودان بلادهما نحو «الإيطاليست» أي الخروج من الاتحاد الأوروبي على غرار البريكست البريطاني، لكن مواقف وتصريحات ميلوني بعد ذلك أثبتت العكس، وأن انتقاداتها للمؤسسات الأوروبية كانت ولا تزال بغرض الإصلاح وتجنب العيوب والأخطاء السابقة خصوصاً في مرحلة جائحة كورونا. واليوم أصبحت ميلوني مصدر إلهام للقادة والمؤسسات الأوروبية في طرح المقاربات السياسية المعتدلة التي تقوم على البراجماتية السياسية، وتحقيق مصالح الاتحاد الأوروبي دون تجاهل المصالح الوطنية ل27 دولة هي دول الاتحاد. وزادت ميلوني على ذلك بأنها أصبحت تشكل المساحة المشتركة التي يمكن أن تحل فيها كافة المشاكل الأوروبية في ظل ما تتمتع به من علاقات قوية بين مختلف التيارات والأحزاب والقوى السياسية الأوروبية، فأكثر زعيم في أوروبا يمكن أن يتحدث إلى الأحزاب اليمينية سواء في الحكومات أو المعارضة الأوروبية هي جورجيا ميلوني التي تحتفظ بعلاقات ممتازة مع رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، ورئيس الوزراء السلوفاكي روبرتو فيتسو، وفي نفس الوقت تحتفظ بعلاقات ممتازة مع رؤساء الدول والحكومات في وسط وغرب أوروبا مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا وإسبانيا، وهو ما يجعلها الزعيمة الأوروبية الأقرب للجميع، والتي بات ينظر إليها الأوروبيون اليوم على أنها أيقونة أوروبا الجديدة، وباتت تساهم وبقوة في تقديم حلول كبيرة في الكثير من المشاكل السياسية والاقتصادية التي تعاني منها دول الاتحاد الأوروبي خصوصاً ما يتعلق بقضايا الهجرة غير الشرعية حيث ترى ميلوني أن هناك من يعمل على ما وصفته بالاستبدال العرقي الذي يقوم على استبدال عمال ومهاجرين غير شرعيين بالعامل الأوروبي وبمرتبات قليلة من أجل مصالح ضيقة.

ثالثاً: رؤية خاصة بالناتو 
ينظر البعض في أوروبا وحتى داخل إيطاليا إلى جورجيا ميلوني على أنها صنيعة الأزمات، بمعنى أنها جاءت عندما كانت أوروبا وإيطاليا في قمة المعاناة في منتصف عام 2022، أي بعد شهور قليلة من اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وآثار جائحة كورونا كانت لا تزال ماثلة أمام الجميع، لكن أكثر الاتهامات التي واجهتها في ذلك الوقت أنها داعمة لروسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، لكن عندما تولت منصبها استطاعت أن تعيد تموضعها السياسي بالرفض الكامل للحرب الروسية الأوكرانية، وأرسلت السلاح والمساعدات إلى أوكرانيا وفق المنهجية التي عمل بها حلف دول شمال الأطلسي (الناتو)، وزادت على كل هذا أنها رفعت من الإنفاق الدفاعي ليصل إلى نحو 2% من الناتج القومي للبلاد، وهو هدف للناتو منذ قمة الحلف في ويلز عام 2014، وهناك نحو 8 دول في الناتو حتى اليوم لم تصل إلى هذا المستوى من الإنفاق. 
رابعاً: جسر بين أوروبا وترامب
لم يرحب القادة الأوروبيون بعودة الرئيس الأمريكي الجديد إلى البيت الأبيض، وغالبيتهم كانوا يأملون في فوز كامالا هاريس، لأنه تعهد بفرض مزيد من الجمارك على البضائع الأوروبية، ووقف دعم أوكرانيا اقتصادياً وعسكرياً، وربما التخلي عن حلف دول شمال الأطلسي. وسط كل هذه المخاوف تظهر جورجيا ميلوني التي تستطيع أن تلعب دور الجسر بين المخاوف الأوروبية وجموح ترامب. فمنذ سنوات طويلة وحتى قبل أن تصبح رئيسة للحكومة كانت جورجيا ميلوني تشارك في اجتماعات الجناح المحافظ للحزب الجمهوري الأمريكي التي كانت تعقد سنوياً في ولاية فلوريدا، ولهذا تحتفظ ميلوني منذ فترة طويلة بعلاقات طيبة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وفريقه الرئاسي الجديد، وفي مقدمتهم رجل الأعمال إيلون ماسك، وشوهدت ميلوني مع الرئيس الأمريكي قبل تنصيبه في مقره بولاية فلوريدا، وأثنى عليها الرئيس ترامب أكثر من مرة، وهو ما يجعل ميلوني القائد الأوروبي الأكثر قبولاً لدى الرئيس ترامب في السنوات الأربع القادمة، الأمر الذي يمكن أن يخفف من حدة الخلافات المتوقعة بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

خامساً: الاستقرار السياسي
على مدار تاريخها السياسي تميزت ميلوني بالصراحة ومواجهة المشكلات وليس الهرب إلى الأمام، وتعلم ميلوني أن أكبر مشكلة تواجه إيطاليا منذ تأسيس إيطاليا الديمقراطية عقب نهاية وهزيمة الفاشية في الحرب العالمية الثانية هي عدم الاستقرار الحكومي، وأن الائتلافات الحكومية لا تعيش طويلاً، وهو ما جعل إيطاليا نموذجاً في كثرة عدد الحكومات، فخلال نحو 80 عاماً حكم إيطاليا نحو 69 حكومة، وهو عدد قياسي مقارنة بنحو 35 حكومة فقط خلال نفس الفترة في بريطانيا وألمانيا، وهو ما أدى إلى عجز الحكومات الإيطالية المتعاقبة عن القيام بخطط طموحة واستراتيجية بعيدة المدى، لذلك طرحت ميلوني خطة خارج الصندوق لتحقيق الاستقرار السياسي والحكومي في البلاد، وتقوم هذه الخطة على إصلاح دستوري يعزز صلاحيات رئيس الحكومة بحيث تدعو التعديلات الدستورية المقترحة من جانب ميلوني إلى إجراء انتخابات مباشرة لرئيس الوزراء، والقيام بتعديلات جذرية على النظام السياسي الإيطالي الهدف منها تحقيق الاستقرار السياسي والحكومي بما يسمح لإيطاليا بوضع رؤية اقتصادية وسياسية طموحة يمكن أن يعمل عليها الائتلاف الحكومي الحالي، وتبني عليها أي حكومة إيطالية قادمة، لذلك وصفت ميلوني هذه المقترحات بأنها أم الإصلاحيات، لأنه بموجب هذه الإصلاحات تسعى إلى انتخاب مباشر من الشعب لرئيس الوزراء لمدة 5 سنوات، حتى يعمل بالتزامن مع الفترة الكاملة للبرلمان التي تستمر 5 سنوات أيضاً، ومن شأن هذه الخطوة أن تمنح رئيس الوزراء تفويضاً أقوى في ممارسة سلطاته، وتجعل من الصعب على البرلمان أو الأحزاب الإطاحة بالحكومة، ويشكل هذا التوجه تغييراً تاريخياً في التفكير الإيطالي الذي كان يدعو دائماً إلى عدم تركيز السلطة في يد شخص واحد حتى لا يتكرر ما جرى في عهد موسوليني، وكل هذه الإصلاحات سوف تجعل من الحكومة الإيطالية أكثر فاعلية وأكثر ثقة في طرح الحلول البعيدة المدى.
سادساً: إبداع اقتصادي
يحتل الاقتصاد الإيطالي في الوقت الحالي المرتبة الثالثة بين الاقتصادات الأوروبية بعد ألمانيا وفرنسا، ويأتي في المرتبة الثامنة عالمياً، وإيطاليا بذلك عضو في مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، ومجموعة دول العشرين لأكبر الاقتصادات في العالم حيث يصل الناتج القومي الإيطالي إلى نحو 3.1 تريليون دولار سنوياً. لكن رغم ذلك واجهت ميلوني عند توليها ديناً عاماً مرتفعاً جداً وصل إلى نحو 150% من قيمة الاقتصاد الإيطالي، وكان هناك ارتفاع حاد في أسعار الطاقة خاصة الغاز حيث وصلت أسعار الغاز لأعلى سقف عندما تولت ميلوني منصبها عام 2022 على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى التداعيات الخطرة على إيطاليا من جائحة كورونا، لكن ميلوني بسرعة وبمهارة شديدة حققت الاستقرار في الاقتصاد، واستعادت ثقة الجميع في الاقتصاد الإيطالي.
سابعاً: مليوني وماتي
لدى رئيسة الوزراء الإيطالية رؤية خاصة للتعاون مع الدول الإفريقية، حيث ترى في إفريقياً مصدراً للآمال والآلام معاً، الآمال تراها في ما تملكه القارة الشابة من موارد وعدد كبير من السكان بما يجعل إفريقيا مرشحة لتكون مستقبل العالم بعد 2050. لكن الآلام أيضاً تأتي من الهجرة غير الشرعية التي تنطلق من شمال القارة أو جنوبها ناحية الموانئ الإيطالية، لذلك اقترحت ميلوني خطة مستقبلية للتعاون مع الدول الإفريقية (ماتي) مستوحاة من إرث رجل الأعمال الإيطالي إنريكو ماتي، الذي كان رمزاً للتعاون الاقتصادي والتنمية في إفريقيا خلال العقود التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، والهدف الرئيسي من هذه المبادرة هو معالجة العديد من القضايا الحيوية التي تواجهها إيطاليا، على غرار ملف أمن الطاقة والهجرة، حيث يعزز هذا التوجه الجديد نحو إفريقيا من دور إيطاليا كمركز للطاقة وتوزيع الغاز الطبيعي إلى الداخل الأوروبي، كما أنها تساعد في التنمية الإفريقية بما يمنع تدفق المزيد من المهاجرين للدول الأوروبية، خصوصاً إيطاليا التي تشكل مع اليونان وإسبانيا أحد الأبواب الثلاثة الجنوبية للقارة العجوز. ورحبت الدول الإفريقية بمبادرة ميلوني (ماتي) لأنها توفر مصادر تمويل متعددة بما يعزز المرونة الاقتصادية للدول الإفريقية، ويخلق فرص عمل جديدة ويساهم في النمو الاقتصادي ونقل الخبرات والتكنولوجيا الإيطالية المتقدمة إلى الدول الإفريقية.
المؤكد أن جورجيا ميلوني سوف تكون واجهة وعنوان أوروبا في السنوات القادمة، ليس فقط بسبب نجاحاتها على المستويين الداخلي والأوروبي بل لقدرتها الواضحة على التواصل والإقناع مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو ما يوفر فرصة لاستقرار العلاقات الأوروبية الأمريكية خلال السنوات الأربع المقبلة

زر الذهاب إلى الأعلى