آراء

عبدالله سلمان: “الســــطو الأعظـم”

الفساد المالي والإداري في العراق وتداعياته الكارثية
في قلب المشهد العراقي تختلط الثروات الطبيعية مع معاناة المواطنين ويتجلى الفساد المالي والإداري كواحدة من أكبر المعضلات التي تواجه البلاد. ان الفساد الذي تحول إلى منظومة مترابطة ومعقدة لا يقتصر على سرقة الأموال فحسب بل يمتد إلى تدمير النسيج الاجتماعي والاقتصادي للعراق . يوصف هذا الفساد بأنه “السطو الأعظم” ليس فقط بسبب حجمه الهائل بل لأنّه نجح في اختراق كافة جوانب الحياة العراقية من المؤسسات الحكومية إلى القطاع الخاص مما جعل منه عائقاً رئيسياً أمام تحقيق اي تنمية واستقرار.
يرتبط الفساد في العراق ارتباطًا وثيقًا بمنظومة الحكم القائمة التي جاء بها المحتل الامريكي ورعاها المحتل الايراني والتي تستند على المحاصصة الطائفية والتوافقية بين أطراف العملية السياسية. هذا النظام السياسي الذي بُني على توزيع المناصب وتشًيكل السلطة بناءً على الانتماءات الطائفية والعرقية أوجدت بيئة خصبة لنمو الفساد وانتشاره.
كل كتلة سياسية تعمل على حماية مصالحها وضمان بقاء أعضائها في مواقع القوة على حساب القانون والنزاهة. هذه الديناميكية تجعل من الصعب محاسبة المسؤولين الفاسدين حيث تُغلق الملفات ويتم التغطية على الجرائم للحفاظ على التوازن السياسي بين الأطراف المختلفة.
ان هذا النظام التوافقي تحول في الواقع إلى أحد أعمدة الفساد. فكل طرف سياسي يدافع عن “سراقه” ويحميهم من المحاسبة مما يخلق حلقة مفرغة من الفساد المستمر.
منذ عام 2003، شهد العراق عملية “السطو الأعظم” التي تشير إلى فقدان حوالي ترليون دولار من ميزانية الدولة نتيجة للفساد المستشري. هذا المبلغ الهائل لم يختفِ فحسب، بل تفرق بين عدة أشكال من الفساد، تشمل السرقة المباشرة والنهب المنظم والتبذير العشوائي إلى جانب الإنفاق الحكومي غير المجدي.
هذه السرقات التي تمت عبر صفقات مشبوهة و عقود وهمية وعمولات هائلة في المشاريع الحكومية. ويعلم الشعب العراقي ان شخصيات نافذة متورطة وفاعلة في تحويل الأموال العامة إلى حسابات شخصية سواء داخل العراق أو خارجه.
أما التبذير هو الوجه الآخر للفساد في العراق. حيث تُنفق مليارات الدولارات على مشاريع غير ضرورية أو غير مدروسة في ظل غياب الرؤية الاستراتيجية للإدارة العامة وغالبًا ما تكون نتيجة ضغط سياسي أو علاقات شخصية. فالكثير من هذه المشاريع إما تتعطل بعد فترة وجيزة من انطلاقها أو تُنفذ بجودة متدنية مما يساهم في هدر المزيد من الموارد.
ويـُعد الإنفاق الحكومي غير المجدي مشكلة أخرى تتسبب في استنزاف ميزانية البلد. فعلى سبيل المثال يتم تخصيص أموال طائلة لدعم هيئات ومؤسسات غير فعالة .
إن الهدر المستمر لهذه الأموال له تأثير مدمر على الاقتصاد العراقي و تفاقم البطالة و تدهور البنية التحتية التي تعرضت لتخريب متعمد بعد ان دمرت القوات الامريكية معظمها اثناء الحصار وغزو البلاد ان تراجع الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والكهرباء هي نتائج مباشرة لهذا الفساد.
في السياق العام، تُعرف السرقات الكبرى بمصطلحات مثل ” استباحة المال العام ” أو “السطو الأعظم” او صفقة القرن وهي مصطلحات تصف السرقات الهائلة التي تلتهم ثروات البلاد. لكن حينما يتم تسليط الضوء على سرقة مبالغ صغيرة نسبيًا وتوصيفها بـ”صفقة القرن”، فإن ذلك محاولة متعمدة من قبل المتنفذين في السلطة للتغطية على السرقات الأكبر، والتي تمثل “السطو الأعظم” على خيرات الشعب العراقي.
فان آلية الخداع والتضخيم تهدف إلى إبعاد الأنظار عن فساد أعمق وأوسع نطاقًا. فعندما يُثار النقاش حول سرقة محددة، يتوقف الحديث عن السرقات التي تشمل مليارات الدولارات التي اُخذت من خزينة الدولة على مر السنين عبر عقود غير مشروعة و صفقات مشبوهة .
تعتبر التغطية على السرقات الكبرى ليست مجرد مسألة إعلامية، بل هي جزء من استراتيجية سياسية متكاملة. المتنفذون في الحكم يدركون أن كشف سرقاتهم الكبرى يمكن أن يهدد مواقعهم في السلطة. لذا يلجأون إلى توريط شخصيات أقل نفوذًا في قضايا فساد صغيرة نسبيًا لتشتيت الانتباه عن السرقات الأهم.
السطو الأعظم: الحقيقة المغيبة
ان السرقات الكبرى التي تُعد “السطو الأعظم” لا تزال تمثل الجريمة الحقيقية ضد الشعب العراقي. هذه السرقات تمثل عقودًا من النهب المنظم الذي أضعف المؤسسات التي تخدم المجتمع ، وجعل العراق من بين أكثر الدول فسادًا في العالم.
لذا اصبح من الضروري أن يكون هناك وعي شعبي وإعلامي أعمق، بحيث لا يتم خداع الناس بسهولة. الفساد في العراق ليس مجرد سلسلة من السرقات الصغيرة، بل هو منظومة متكاملة تتطلب مواجهة حقيقية وشاملة من قبل جميع القوى الوطنية والمجتمعية، لاستعادة البلاد من قبضة الفاسدين.
في العراق يرتبط الفساد بشكل وثيق بالأحزاب والمجموعات السياسية التي عمدت حصر السلطة والمال والقوة في يدها من خلال ميليشيات مسلحة وهو ما يضيف بُعدًا خطيرًا ومعقدًا للمشهد.
ان الميليشيات المسلحة المرتبطة بهذه الأحزاب لا تتوانى عن استخدام العنف لترهيب وإسكات كل من يجرؤ على تحدي الفساد من صحفيين وناشطين، وحتى المسؤولون الذين يحاولون محاربة الفساد يتعرضون للتهديد المستمر . هذا التحالف بين الفساد والمليشيات في العديد من الحالات تحول الى تهديدات واغتيالات، حيث قُتل العديد من الناشطين والصحفيين الذين عملوا على فضح الفساد. علاوة على ذلك فان هذا التحالف يعمق الانقسامات الطائفية والعرقية
نتيجة لهذا النظام أصبح الفساد ليس فقط معضلة من معضلات الأزمة العراقية بل جزءًا أساسيًا وجوهريا من بنية النظام وعمليته السياسية التي وضعها المحتل للاجهاز على مقدرات وخيرات العراق . وهو ما يضع العراق أمام تحدٍ كبير في مساعيه للتخلص من هذا الإرث الثقيل، فأن أي محاولة للإصلاح تصطدم بمصالح متجذرة وأطراف مستفيدة من الوضع القائم. فان لم يتم تفكيك هذا النظام القائم على المحاصصة والتوافقية فإن الفساد سيظل عقبة رئيسية أمام أي تقدم حقيقي في العراق.

جميع المقالات تعبر عن رأي كتابها ولا تمثل يورو تايمز

زر الذهاب إلى الأعلى