اليسار الفرنسي يفوز: لماذا لا يعتبر نصراً حقيقياً؟
لفت الكاتب السياسي تيم بلاك إلى أن شبه الانتصار الذي حققه اليسار الفرنسي على حزب التجمع الوطني في الانتخابات التشريعية الأخيرة كان باهظ الثمن. وثمة شيء أبعد من ذلك.
وكتب بلاك في مجلة “سبايكد” أنه بالرغم من حلوله ثالثاً مع 143 مقعداً، تمكن حزب التجمع الوطني من زيادة عدد المقاعد التي يشغلها بشكل كبير، بما يفوق 50%، وهو بسهولة أكبر حزب سياسي منفرد في الجمعية الوطنية الفرنسية.
وعلى النقيض من ذلك، إن حزب فرنسا الأبية بزعامة جان لوك ميلانشون، وهو الحزب الأكبر في الجبهة الشعبية الجديدة، يملك 78 مقعداً فقط.
وبالنظر إلى الطبيعة الهشة للائتلافات الآن داخل الجمعية الوطنية، إن أي حكومة ستظهر بعد نهاية هذا الأسبوع ستعاني لتحقيق التماسك.
معيار بارز آخر
علاوة على ذلك، وفي حين أن حزب التجمع الوطني ربما خسر الانتخابات، ستمنحه حصته من الأصوات الخام الكثير من التشجيع قبل الانتخابات الرئاسية سنة 2027.
وحسب أحدث الأرقام، حصل حزب الجبهة الوطنية على 37% من إجمالي الأصوات التي تم الإدلاء بها.
وهذا يفوق بكثير نسبة 26% الخاصة بالجبهة الشعبية الجديدة، ونسبة 25% الخاصة بائتلاف معاً بقيادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وبحسب الكاتب، ما من شك في أنه لا يزال ثمة مقدار كبير من التوتر بين قطاعات من الجمهور الفرنسي حيال التجمع الوطني.
وهذا ليس بالأمر المفاجئ لأن الجبهة الوطنية، وهي التسمية القديمة للحزب، تأسست على يد والد مارين لوبان، جان ماري لوبان، وهو معادٍ شرس للسامية ومنكر للهولوكوست.
ومع ذلك، من الواضح أيضاً أن أعداداً متزايدة من الرجال والنساء الفرنسيين على استعداد للإدلاء بأصواتهم لحزب سعى في السنوات الأخيرة إلى التخلص من صورته السامة سياسياً وطردت مارين والدها من الحزب سنة 2015 بسبب معاداته للسامية.
مشكلة ثانية
وثمة سبب آخر يجعل هذا “الانتصار” على اليمين الشعبوي يبدو أجوف حسب الكاتب: الطريقة الساخرة التي تمت صياغته بها. في الأسبوع الماضي، ومن ضمن “الجبهة الجمهورية” ضد حزب التجمع الوطني، اتفقت الجبهة الشعبية الجديدة ومعاً على سحب أكثر من 200 مرشح بشكل متبادل من سباقات ثلاثية في المناطق التي كان لدى التجمع الوطني فرصة للفوز فيها.
وكان الهدف هو تأطير الانتخابات في خيار بسيط بين ما يسمى اليمين المتطرف والقوى المناهضة للفاشية.
ليست هذه التكتيكات جديدة بالطبع. فعندما تعرضت للتهديد من التجمع الوطني والجبهة الوطنية التي سبقته، غالباً ما قامت المؤسسة السياسية الفرنسية متحالفة مع اليسار، بتحويل الانتخابات الوطنية إلى خيار ثنائي ــ لصالح أو ضد الفاشية.
وقد تم استخدام هذه التكتيكات بشكل شهير سنة 2002 لمنع العنصري السامّ جان ماري لوبان من هزيمة جاك شيراك في الانتخابات الرئاسية.
تكتيكات ناجحة.. نتائج سلبية
وأضاف الكاتب أنه في حين أثبتت هذه التكتيكات نجاحها مرة أخرى، هي تنتج نتيجة سلبية تماماً. باختصار، إن هذه الأصوات التي صبت لمصلحة الجبهة الشعبية الجديدة ومعاً ليست مع أي شيء.
وهي ليست لبرنامج سياسي أو حتى لزعيم معين. في الواقع، باستثناء معارضتهما للتجمع الوطني، إن الجبهة الشعبية الجديدة ومعاً يحتقران بعضهما بعضاً.
وتعهدت الجبهة الشعبية الجديدة بإلغاء العديد من إصلاحات ماكرون، فطالبت مثلاً بخفض سن التقاعد إلى 60 عاماً وإعادة الضريبة القديمة على الثروة. علاوة على ذلك، وكما أظهر عدد لا يحصى من المقابلات المباشرة مع الناخبين الفرنسيين يوم الأحد، إن أولئك الذين صوتوا للجبهة الشعبية أو معاً لم يعجبهم في كثير من الأحيان أي من الائتلافين. لقد طُلب منهم ببساطة تقويض التجمع الوطني.
ثمة فرق آخر مذهل بين هذه المحاولة لإبقاء الجبهة الوطنية في مأزق والجهود السابقة. في الانتخابات الرئاسية سنة 2002 ولاحقاً في 2017 و2022 حين هزم ماكرون مارين لوبان مرتين، لعب اليسار الفرنسي الدور الداعم معززاً مرشح المؤسسة، سواء كان شيراك أو ماكرون، لكن هذه المرة يجد نفسه اللاعب الرئيسي بعدما أصبح أكبر ائتلاف في الجمعية الوطنية.
لكن هذا النجاح النسبي قد يأتي بنتائج عكسية على اليسار. قد يتخيل أنصار الجبهة الشعبية الجديدة أنهم يقودون معركة مجيدة ضد الفاشية الصاعدة. لكن الحقيقة هي أن مجموعات واسعة من أبناء الطبقة العاملة في فرنسا الذين يصوتون الآن لصالح حزب التجمع الوطني لا يفعلون ذلك لأنهم عنصريون أو نازيون جدد أو يحاولون تقويض الجمهورية. إنهم يفعلون ذلك لأنهم قلقون من الهجرة والإسلاموية والسياسات الخضراء المتطرفة وتهميشهم، لكنهم يواجهون أحزاباً سياسية، من اليسار والوسط، ترفض معالجة هذه القضايا على الإطلاق.
الخلاصة الأهم
من الواضح أن حزب التجمع الوطني أصبح وسيلة لأولئك الذين يناضلون على الأطراف وأولئك الذين يعيشون خارج مراكز الامتيازات الحضرية، لتوجيه ضربة للنخب الفرنسية الراضية عن نفسها. وكما قال مؤخراً أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة إدنبره إميل شابال: “يمكن لحزب التجمع الوطني أن يدعي إلى حد ما أنه حزب الطبقات العاملة الفرنسية”. وفي حين أن الحزب ليس منفذاً مثالياً لهذا التمرد، إلا أنه كل ما يشعر الناخبون أنه تحت تصرفهم. في غضون ذلك، يجد اليسار الفرنسي نفسه في موقف غير مريح بقيادة الاتهام ضد هذا التعبير عن سخط وغضب الطبقة العاملة، حيث تستمد الجبهة الشعبية الجديدة إلى حد كبير قاعدة دعم خاصة بها من سكان المدن البرجوازيين.
ربما يكون حزب التجمع الوطني، بقيوده الواضحة، قد فشل في تحقيق الاختراق الانتخابي الذي توقعه كثر هذه المرة، لكن الغضب الشعبوي الذي يغذيه لن يذهب إلى أي مكان. وختم بلاك كاتباً أنه كلما زاد تجاهل مخاوف الناس، تزايدت وتيرة التمرد الفرنسي.