تحولت نحو الليبرالية الجديدة.. صعود وسقوط الديمقراطية السويدية
كجيل أوستبيرج
أستاذ في المعهد السويدي للتاريخ المعاصر، جامعة سودرتورن، استوكهولم، وخبير بارز في التاريخ السويدي في القرن العشرين. يركز في أعماله على الديمقراطية الاجتماعية والحركات الاجتماعية الجديدة.
كانت الديمقراطية السويدية مصدر إلهام للاشتراكيين الشباب في العالم على مدار أجيال؛ لكن لم يبق سوى القليل من هذا النموذج اليوم، فقد تحولت البلاد في نهاية المطاف نحو الليبرالية الجديدة. يعاين هذا الكتاب الاستراتيجيات الإصلاحية، وتطور نظام الرعاية الاجتماعية السويدي، ويقدم رؤية عن التحولات السياسية العالمية الأوسع على مدى الخمسين عاماً الماضية.
في كتابه «صعود وسقوط الديمقراطية الاجتماعية السويدية»، يستكشف كجيل أوستبيرج مسار إحدى الحركات السياسية الأكثر شهرة في أوروبا، متتبعاً رحلتها من النجاح غير المسبوق، إلى حالة التدهور الحالية. وتتعمق هذه الدراسة الشاملة في تاريخ الديمقراطية الاجتماعية السويدية، وتسلط الضوء على انتصاراتها المبكرة، والتحديات اللاحقة، والتكيف النهائي مع الضغوط النيوليبرالية.
يبدأ كتاب أوستبيرج الصادر عن دار «فيرسو» للنشر باللغة الإنجليزية في إبريل/ نيسان 2024 ضمن 204 صفحات، بتوضيح صعود الحركة الديمقراطية الاجتماعية في السويد، والتي حوّلت البلاد من واحدة من أفقر دول أوروبا، إلى واحدة من أغنى الدول، مع نظام رعاية اجتماعية قوي. ومع بقاء رؤساء الوزراء الديمقراطيين الاشتراكيين في السلطة لمدة 72 عاماً من الأعوام التسعين الماضية، بما في ذلك فترة 44 عاماً متواصلة، أصبحت السويد نموذجاً للحكم التقدمي، والرعاية الاجتماعية. وجاءت ذروة هذا النجاح في السبعينيات، عندما أشارت سلسلة من الإصلاحات والسياسات الاجتماعية الفريدة، بما في ذلك صناديق العاملين بأجر وتدابير المساواة بين الجنسين، إلى أن السويد كانت على الطريق نحو مستقبل اشتراكي.
ومع ذلك، كما يشير أوستبرج، واجه الحزب الديمقراطي الاجتماعي السويدي في نهاية المطاف ضغوط الثورة المضادة النيوليبرالية، ما أدى إلى تحول كبير في نهجه. ويتناول الكتاب كيف أدى تكيف الحزب السريع مع هذه الحقائق السياسية والاقتصادية الجديدة، إلى خصخصة أجزاء كبيرة من القطاع العام، وزيادة عدم المساواة الاجتماعية. وعلى الرغم من أن الحكومات الديمقراطية الاجتماعية لا تزال تسيطر على السلطة، فإن تأثير الأحزاب الشعبوية اليمينية، مثل حزب الديمقراطيين السويديين، قد نما، ما يشكل تحدياً لوضع الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي كان مهيمناً ذات يوم.
تراجع الديمقراطية
يستكشف أوستبرج العوامل التي أسهمت في تراجع الديمقراطية الاجتماعية السويدية، مع التركيز على القيود المفروضة على الاستراتيجية الإصلاحية، واعتماد الحزب على تطور الرأسمالية الدولية. ويناقش الديناميكيات المعقدة بين الحزب والجهات الفاعلة الاجتماعية الأخرى، ويسلط الضوء على الدور الحاسم الذي لعبته التعبئة الاجتماعية الأوسع، والصراعات الطبقية في تشكيل دولة الرفاهية السويدية. ويتحدى هذا السياق الأوسع السرد التقليدي الذي يعزو نجاح الحزب إلى قوته الداخلية فقط.
يستكشف الكتاب أيضاً، تأثير الأيديولوجيات المختلفة في تطور الحزب. وأشارت التفسيرات المبكرة إلى أن الديمقراطية الاجتماعية السويدية تخلّت عن أسسها الماركسية، واتجهت إلى نهج أكثر إصلاحية، في حين أدركت التحليلات اللاحقة التأثير الكبير للأيديولوجيات البديلة، مثل الكينزية، في سياسات الحزب. ويُعيد أوستبرج النظر في هذه المناقشات، مقدماً فهماً دقيقاً للخيارات الاستراتيجية للحزب وعلاقته بالاقتصاد الرأسمالي.
أحد الجوانب الحاسمة التي يستكشفها أوستبيرج، هو دور الحركات والنقابات العمالية في تشكيل الديمقراطية الاجتماعية السويدية. ويقدم الكتاب وصفاً تفصيلياً لكيفية لعب اتحاد نقابات العمال السويدي، والنقابات التابعة له، دوراً حاسماً في دفع الإصلاحات الاجتماعية، وبناء دولة رفاهية قوية. وسمح التعاون بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي والحركة العمالية بإحراز تقدم كبير في حقوق العمال، والرعاية الاجتماعية. ومع ذلك، يدرس أوستبرج أيضاً القيود المفروضة على هذا التحالف، مشيراً إلى أنه عندما أصبح الحزب أكثر اندماجاً في المؤسسة السياسية، تضاءل التزامه بسياسات العمل الراديكالية، ما أدى إلى التآكل التدريجي لحقوق العمال، والحماية الاجتماعية.
ويبحث أوستبيرج أيضاً، في تأثير العولمة والرأسمالية الدولية على الديمقراطية الاجتماعية السويدية. ومع ازدياد اندماج الاقتصاد السويدي في السوق العالمية، واجه الحزب الديمقراطي الاجتماعي ضغوطاً متزايدة للتوافق مع السياسات النيوليبرالية. وكان لهذا التحول تأثيرات عميقة في دولة الرفاهة الاجتماعية في البلاد، ما أدى إلى الخصخصة، وإلغاء القيود التنظيمية، واتساع فجوة الدخل. ويكشف تحليل أوستبيرج كيف ساهمت ضغوط العولمة في إضعاف النموذج الديمقراطي الاجتماعي السويدي، ومهدت الطريق في نهاية المطاف لصعود الشعبوية اليمينية، حيث طغت السياسات التي يحركها السوق على القيم الديمقراطية الاجتماعية التقليدية.
موضوع آخر مهم في الكتاب، هو البعد الجنساني للديمقراطية الاجتماعية السويدية. يسلط المؤلف الضوء على كيف لعب التزام الحزب المبكر بالمساواة بين الجنسين دوراً رئيسياً في نجاحه. ويتعمق الكتاب في مساهمات شخصيات بارزة مثل ألفا ميردال، والحركة النسائية الأوسع، والتي أثرت في السياسات الاجتماعية، مثل إجازة الأبوّة ورعاية الأطفال. ومع ذلك، يشير أوستبرج أيضاً إلى أنه مع تحول الحزب نحو الليبرالية الجديدة، بدأت العديد من هذه المكاسب في المساواة بين الجنسين في التآكل، ما يشير إلى التحدي الأوسع الذي يواجهه الحزب في الحفاظ على مُثُله التقدمية في مواجهة الديناميكيات السياسية المتغيرة.
تأثير القيادة السياسية
يتناول أوستبيرج أيضاً، دور القيادة السياسية في تحول الديمقراطية الاجتماعية السويدية، ويشير إلى أن القادة الكاريزميين الذين قادوا السياسات الراديكالية والإصلاحات الاجتماعية للحركة قد تم استبدالهم بشخصيات وسطية أكثر حذراً. وهؤلاء القادة الجدد أقل ميلاً إلى تحدي الوضع الراهن، وأكثر احتمالاً للتوصل إلى تسوية مع المصالح النيوليبرالية. ويعكس هذا التحول في أسلوب القيادة ميلاً أوسع نطاقاً داخل الحزب لتفضيل البراغماتية على الالتزام الأيديولوجي، ما يسهم، بشكل أكبر، في انحدار النموذج السويدي.
ويقدم الكتاب نظرة مقنعة على التغيرات الثقافية والمجتمعية الأوسع التي أثرت في الديمقراطية الاجتماعية السويدية. ويستكشف أوستبيرج كيف أدى ظهور النزعة الاستهلاكية والتأثير المتزايد لوسائل الإعلام العالمية إلى تغيير التصورات العامة حول ما يشكل مجتمعاً ناجحاً. ومع ازدياد تعرض المواطنين السويديين لثقافة الاستهلاك العالمية، تغيّرت توقعاتهم وقيمهم، الأمر الذي أدى إلى انخفاض الدعم لدولة الرفاهية التقليدية. وكان لهذا التحول الثقافي تأثير مباشر في قدرة الحزب الديمقراطي الاجتماعي على الحفاظ على قاعدة دعمه التقليدية، ما سلّط الضوء على التفاعل المعقد بين السياسة والثقافة والاقتصاد في تشكيل مصير الحركات الديمقراطية الاجتماعية.
ويتناول أوستبيرج الآثار الأوسع للتجربة الديمقراطية الاجتماعية السويدية بالنسبة إلى الحركات التقدمية الأخرى حول العالم، ويدعو القراء إلى التفكير في التحديات والفرص التي تواجهها الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في عصر الهيمنة النيوليبرالية. ويعد الكتاب بمثابة تذكير بأنه في حين كان يُنظر إلى النموذج السويدي ذات يوم كمثال للتوازن الناجح بين الاشتراكية والرأسمالية، فإن حتى أقوى الحركات السياسية يمكن أن تكافح من أجل التكيف مع الظروف المتغيرة، وهذا يؤكد أهمية الابتكار والمرونة في النضال المستمر من أجل العدالة الاجتماعية والمساواة.