صدمة ترامب للناتو وأوروبا تُشعل الغضب وتُثير الخوف في فرنسا
شنّ كُتّاب ومحللون فرنسيون هجوماً غير مسبوق على الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، مُعبّرين عن ردود فعل العديد من السياسيين وصُنّاع القرار في فرنسا تجاه تصريحات ترامب الأخيرة التي وصفوها بأنّها استفزازية وغير مسؤولة وتُثير الرعب على الجانب الأوروبي من المحيط الأطلسي، وتزرع الشك في التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها.الكاتب والمحلل السياسي لوك دي باروشيز، قال إنّ الخوف خيّم في أوروبا بعد تصريحات المرشح الرئاسي عن الحزب الجمهوري خلال تجمّع انتخابي قبل أيام، الرئيس السابق وربما القادم، والتي قال فيها إنّه مستعد لإلقاء حلفاء واشنطن تحت الحافلة، مُحذّراً من أنه إذا تمّ انتخابه، فإنّه سيرفض حماية أي حليف في الناتو لا يُنفق ما يكفي على الدفاع عنه من أيّ هجوم روسي مُحتمل.
لكنّ باروشيز مسؤول التحرير في مجلة “لو بوان” اعتبر في المقابل أنّ تلك التصريحات مُفيدة، إذ تمّ تحذير أوروبا، وبدلاً من الغضب إزاء سلوكيات ترامب السيئة، من الأفضل لزعماء أوروبا أن يأخذوا هذا التحذير على محمل الجد، لأنه، وبعيداً عن الاستفزاز، فإنّ ترامب يضع أصبعه على مشكلة حقيقية عبر تهديد حلفاء الولايات المتحدة، وهو ما يعمل على تسريع الوعي الأوروبي.
الحماية الأمريكية لن تكون أبدية
تييري تاردي، العالم والباحث السياسي المتخصص في قضايا الأمن الدولي، حذّر من أنّ ترامب يُشكك من خلال تصريحاته، في وجود التحالف الأطلسي، ولا يُدرك ضرورة الحفاظ على رابط أمني قوي مع الأوروبيين الذين باتوا يشعرون بالخطر، وذلك ما لم تقرر الدول الأوروبية بنفسها رسم مسار دفاعي مشترك فاعل.
وتساءل تاردي إلى متى سيستمر الأميركيون في احترام الضمانات الأمُنية المتعاقد عليها مع الأوروبيين في إطار التحالف الأطلسي الذي تأسس عام 1949، مُشيراً إلى أنّ فرضية عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في عام 2025 يُمكن أن تُثير مخاوف مشروعة من أنّ الحماية الأمريكية لن تكون أبدية.
وحذّر من أنّ ما هو على المحك هنا يتجاوز المسائل المالية، إذ من المرجح أن تصبح مصداقية الحلف الأطلسي، بل وحتى وجوده، موضع شك. ولا شك أنّ ترامب يتمتع بالثقافة السياسية لدى الشخص الذي يستطيع أن يقرر من جانب واحد إنهاء التحالف من دون إدراك التداعيات العديدة التي قد يُخلّفها عدم الاستقرار الأوروبي على أمن الأميركيين.
ومن جانبه، يتعيّن على فلاديمير بوتين، وفق العالم السياسي الفرنسي، أن يأمل في رؤية عودة محاور لا يستطيع أن يناقش معه فقط مصير أوكرانيا، بل ويقرر إذا لزم الأمر، مصيرها من وراء ظهر الأوكرانيين، وبطبيعة الحال، الأوروبيين، ولكن أيضاً إدراك عدم مصداقية التحالف الغربي ضدّ روسيا.
تشجيع روسيا على مُهاجمة أوروبا
من جهتها قالت “اللو موند” في افتتاحيتها، إنّ الأوروبيين ظلّوا يعيشون لفترة طويلة أوهاماً بشأن أمنهم، والأمر متروك لهم اليوم لمواجهة ديناميكية بوتين-ترامب المزدوجة المدمرة. وذكرت أنّ تصريحات ترامب الأخيرة لم تكن الضربة الأولى التي يُطلقها دونالد ترامب ضدّ أوروبا، ولا ضدّ منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لكنّ فداحة كلماته أيقظت الأوروبيين. ولم يكتف الرئيس السابق للولايات المتحدة، المرشح لولاية ثانية والمُفضّل حالياً في استطلاعات الرأي، بتأكيد أنّ بلاده، تحت سلطته، لن تُدافع عن الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي التي لن تدفع ما يكفي، بل وألمح كذلك إلى أنه سيشجع روسيا على مُهاجمتهم.
والفارق بين هذه التصريحات الأخيرة وتلك التي اعتاد على إطلاقها ترامب عندما كان في البيت الأبيض هو أنّ حرباً واسعة النطاق عادت بالفعل إلى أوروبا، حيث تعيش العديد من دول الناتو الأوروبية المُتاخمة لأوكرانيا وبيلاروسيا وروسيا مع هذا التهديد كل يوم وتعتبره تهديداً وجودياً.
وسواء كان دونالد ترامب استفزازياً عن عمد أم لا، وسواء كان يقيس نطاق تصريحاته أم لا، وسواء كان المقصود من رسالته تملّق الطبقة الانعزالية من ناخبيه أو إثارة ذعر الأوروبيين، فلا يهم. وما يجب أن نتذكره من هذه التصريحات، وفق “اللوموند” هو أنّه زرع الشك في صلاحية الحلف في وقت يحتاج فيه الأوروبيون بشدة للدعم، كما أنّ وظيفة الردع التي يقوم بها حلف الأطلسي تنهار عندما يشك الخصم في إمكانية تنفيذها.
التهديدات أخذت على محمل الجد
وحذّرت اليومية الفرنسية من أخذ الأمور باستخفاف، حتى لو اعتبر البعض تلك التصريحات خيالية، إذ وبالفعل، في عام 2018، خلال اجتماع قمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هلسنكي، أكد دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي آنذاك، أنه أعطى مصداقية أكبر لما قاله له بوتين أكثر من مصداقية أجهزة المخابرات الأمريكية. وهذه المرّة، تتزامن تصريحات ترامب مع الجهود التي كان يبذلها المسؤولون الجمهوريون المُنتخبون في الكونغرس لمنع المساعدات الأمريكية لأوكرانيا.
وتُظهر ردود الفعل المنزعجة للعديد من الزعماء الأوروبيين على تعليقات ترامب أنّ تهديداته قد تم أخذها على محمل الجد أخيراً. وهو ما اعتُبر بمثابة صدمة كهربائية لهم. إذ لفترة طويلة جداً، كان الأوروبيون مخدوعين بشأن حقيقة التهديد الروسي وأولوية الحماية المطلقة من قبل الولايات المتحدة داخل تحالف تمّ تشكيله قبل 75 عاماً في إطار حلف شمال الأطلسي، فيما هناك اليوم سياق دولي مختلف تماماً. لذلك فإنّ استمرارية غزو القوات الروسية لأوكرانيا يفتح أعين أوروبا الغربية، فالعالم تغيّر، وعلى الأوروبيين، ومن دون انتظار الانتخابات الرئاسية الأميركية، أن يتولّوا مسؤولية سلامتهم وأمنهم بأنفسهم.
ضعف أوروبا عسكرياً ولوجستياً
الكاتب والمحلل السياسي فيليب جاكي قال من جهته إنّ فرضية الانسحاب الأمركي من حلف الأطلسي، التي أثارها دونالد ترامب، تُثير قلق الحلفاء، لأنّ أوروبا في هذه المرحلة لا تملك الوسائل العسكرية ولا الخدمات اللوجستية ولا المُعدّات اللازمة لضمان أمنها بمفردها.
وحذّر بدوره من أنّ السيناريو المظلم ليس هو الأرجح على الإطلاق، ولكن مع شبح عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بدأ الأوروبيون يشعرون بالقلق بشكل جدّي بشأن مستقبل الدفاع الجماعي عن القارة القديمة، خاصة وأنّ ترامب “يُهاجم قلب وروح التحالف الأطلسي، وبند التضامن الخاص به”.
وينقل جاكي عن أحد الدبلوماسيين الأوروبيين تحذيره من أنّ انسحاب الولايات المتحدة من الناتو، سيعني ببساطة نهاية التحالف الغربي، فيما الدول الأوروبية لا تستطيع وحدها تنفيذ سياسة ردع ودفاع فاعلة ضدّ روسيا.
ولم تعد المُساهمة الأساسية للولايات المتحدة اليوم في أمن أوروبا تُحتسب في أعداد الجنود الموجودين في القارة والمُعدّات الثقيلة، كما كان الحال خلال الحرب الباردة، إذ تشمل الآن كما يقول كاميل غراند المسؤول في المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية، المُساعدة في مجالات الاستخبارات والاستطلاع والمراقبة، والجسر الجوي الاستراتيجي، والتزود بالوقود أثناء الطيران، وتوجيه الضربات العميقة، والدفاع الجوي، فضلاً عن المراقبة والاتصالات في الفضاء، والتي لا تستطيع أوروبا القيام بها بمفردها.
المظلّة النووية
ومن الناحية العملية، عززت أوجه القصور هذه اعتماد أوروبا على واشنطن، حتى في المهام والعمليات العسكرية الأساسية التي يجب على الأوروبيين أن يتطلعوا إلى تنفيذها بشكل مستقل، كما يُلاحظ ذلك الباحثان ماكس بيرجمان وأوتو سفندسن، في تقرير حديث صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والعسكرية حول تحوّل الدفاع الأوروبي.
كما وتُقدّم الولايات المتحدة أيضاً ميزة أخرى للأوروبيين، وهي المظلة النووية. وحتى لو تم مؤخراً إطلاق النقاش حول توسيع الردع النووي الفرنسي ليشمل القارة بأكملها، إلا أنّ الخبراء العسكريين يؤكدون أنّ “فرنسا لن يكون لديها القدرة على الحلول محل الولايات المتحدة، وتجهيز طائرات الحلفاء بالقنابل الفرنسية” كما أنّ ترسانة الولايات المتحدة لا تتناسب مع ترسانة فرنسا على صعيد الأسلحة النووية، والتي تُعتبر بسيطة جداً بالمُقارنة.