الخارجية الفرنسية تُواجه حرب المعلومات بهجوم مُضاد

تشهد الساحة الرقمية تصاعداً في الهجمات المعلوماتية، التي تستهدف فرنسا بقيمها ونسيجها الاجتماعي وتحالفاتها الدولية، وعلى رأسها دعمها لأوكرانيا والاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وأعلنت وزارة الخارجية الفرنسية، عن تعبئة شاملة لمواجهة ما تصفه بحرب معلوماتية، تقودها قوى كبرى مثل روسيا، إلى جانب الصين، والتيار الأمريكي المُرتبط بالرئيس دونالد ترامب، وشعار “لنجعل أمريكا عظيمة مُجدداً”.
وحذرت الأمينة العامة للوزارة، آن-ماري ديسكوت، خلال ندوة نظّمتها الخارجية قبل أيّام، من أنّ هذه الحروب عبارة عن “معارك في القصص والروايات والصور والانطباعات، تدور على أراض واسعة ومُجزّأة، وفيها جميع الوسائل مُباحة”.
وأكدت أنّ “هدف هذه الحملات المعلوماتية، هو تقويض النظام والقوانين الدولية التي تحكم العالم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لصالح منطق القوة والابتزاز”.
استهداف مباشر لفرنسا
وبحسب الخبراء، تعد فرنسا من أكثر الدول الغربية استهدافاً، فهي وجهة مُفضّلة لخلق نقاشات حادّة واستقطابات داخلية تُضعف الموقف الفرنسي الرسمي، وتخدم مصالح “أعدائها” وحلفائهم.
وأحد أبرز الأمثلة على ذلك، استخدام الحرب الإسرائيلية على غزة لزيادة الاستقطاب في المُجتمع الفرنسي. وأعلنت ديسكوت أنّ روسيا فعّلت ما يُسمّى “شبكة الأخبار الموثوقة المُحدّثة (RRN)”، التي تقول إنّها تضم 353 موقعاً إلكترونياً وهمياً مملوكاً لروس، لنشر تحليلات ومعلومات مضللة تُساهم في تشدّد المواقف.
وفي هذا الإطار كذلك، جاءت عملية “الكتابات المُعادية للسامية المُزيفة”، حيث رُسمت أكثر من 250 نجمة داوود في شوارع باريس وضواحيها في مناسبات كثيرة، وانتشرت الصور بسرعة عبر 1095 حساباً مُزيّفاً على شبكات التواصل الاجتماعي، ما أشعل جدلاً واسعاً. لكنّ التحقيقات كشفت أنّ المُنفّذين مواطنان مولدوفيان، وأنّ الجهة المدبرة شخصية موالية لروسيا.
ولم تقتصر هذه الحملات على قضية غزة، فالتقارير تُشير إلى أنّ فرنسا تستأثر وحدها بـ 21.2% من الهجمات المعلوماتية الروسية، فيما يتعلّق بالحرب مع أوكرانيا، وفق مجلة “ألترناتيف إيكونوميك”.
ومن العمليات الأخيرة التي أثارت قلق السلطات الفرنسية، وضع 9 رؤوس خنازير أمام مساجد في باريس وضواحيها قبل أيّام من اجتماع وزارة الخارجية حول حرب المعلومات، ما أدّى إلى صدمة إعلامية ودينية واسعة. وخلصت تحقيقات النيابة العامة في فرنسا للتأكيد على أنّ المُنفّذين “أشخاص أجانب غادروا الأراضي الفرنسية فوراً”، وأنّ الهدف كان “إثارة الاضطراب داخل الشعب الفرنسي”.
أداة دبلوماسية رقمية
وفي مواجهة هذه التهديدات، أطلقت وزارة الخارجية الفرنسية حساباً على منصّة إكس تحت اسم “French Response”، ليكون منصّة رسمية للرد الفوري على الأكاذيب والهجمات الرقمية. وينشر الحساب تصريحات توضيحية وتقارير وتصحيحات للمعلومات، ويُمكنه التدخل تلقائياً عند رصد معلومات مضللة تتعلق بفرنسا أو بسياساتها أو برئيسها.
وتعمل باريس أيضاً على دعم الصحافة المُستقلّة، والتصدّي للدعاية عبر تدريب صحفيين من مختلف أنحاء العالم من خلال وكالة “كانال فرانس إنترناسيونال”، واستقبال الصحفيين المهددين على أراضيها، وتمويل وسائل إعلام مستقلة خارج فرنسا.
كما أنشأت 3 مراكز للصحفيين في بوخارست لدعم الصحفيين الأوكرانيين في المنفى، وفي داكار لنشر أخبار موثوقة باللغات المحلية في إفريقيا، وفي بيروت لضمان تغطية متوازنة للصراع في الشرق الأوسط.
عقيدة جديدة.. وموارد محدودة
ومنذ الربيع الماضي، اعتمدت الدبلوماسية الفرنسية عقيدة جديدة، تسمح لسفرائها في الخارج بالردّ مباشرة على حملات التضليل التي تستهدفهم، كما بدأت وزارة الخارجية في التعاون مع المؤثرين للدفاع عن المواقف الفرنسية، وهو توجّه جديد في السياسة الدبلوماسية.
ولكنّ التحدّي الأكبر يبقى في الموارد المحدودة. فبحسب تقديرات الباحثين الأكاديميين أرنو داسييه وبنوا ثيولين، فإنّ روسيا تُنفق نحو ملياري يورو سنوياً على حرب المعلومات، بينما لا يتجاوز مجموع ميزانيات الهيئات الفرنسية المُكلّفة بمُكافحة التضليل الإعلامي 25 مليون يورو.
ويرى المؤرخ الفرنسي المُتخصص في تاريخ الدعاية والإقناع الجماهيري، ديفيد كولون، أنّ هذه الفجوة التمويلية تجعل مهمة فرنسا صعبة، إذ رغم إدراك الدبلوماسيين الفرنسيين لضرورة الدفاع عن أنفسهم في ساحة حرب المعلومات، إلا أنّ الميزانيات المخصصة لذلك تتقلص عاماً بعد عام، مثل ميزانيات المعهد الفرنسي ومنظمة الفرنكوفونية، وشبكة “فرنسا ميديا موند” الإعلامية الحكومية.
كما يُشير مُراقبون إلى حاجة الجهود الفرنسية إلى مزيد من السرعة والديناميكية. فحساب “French Response” مثلاً لم ينشر سوى 3 تغريدات منذ إطلاقه نهاية أغسطس (آب) الماضي، ما يُثير تساؤلات حول قدرته على مواكبة حجم الهجمات.
معركة طويلة الأمد
وقال الكاتب والمحلل السياسي في صحيفة “لا كروا” الفرنسية، لوران لارشر: إنّ “باريس تُدرك أنّ هذه المواجهة ليست قصيرة الأمد، وأنّها تتعلق بالدفاع عن نموذجها الديمقراطي وصورتها الدولية. فالحرب على الروايات والمعلومات لا تقلّ أهمية عن الحروب العسكرية أو الاقتصادية، وهي اليوم ساحة رئيسية لتنافس القوى الكبرى”.