د. علي الجابري: سينـاريـو التهجيـر نجـح مرة.. فإحـذروا من تكـراره !
أطلقت إسرائيل مؤخراً نداءاً الى سكان شمالي قطاع غزة طالبتهم خلاله ترك منازلهم فوراً ، والتوجه الى جنوب القطاع المحاصر من جميع الاتجاهات.. وهذه الدعوة سبقتها دعوة أكثر صراحة ووضوحاً، وعبّرت عن الهدف الحقيقي لإسرائيل، وهي الدعوة الى توجه أهالي غزة الى سيناء المصرية، بحجة حمايتهم، وضمان عدم تعرضهم للقصف الجوي للقوات الاسرائيلية ، وما سيتبعه من هجوم بري لاجتياح القطاع ! لكن الرفض السريع للحكومة المصرية، وكذلك الموقف الاردني من هذه الدعوة، جعل اصحابها يتراجعون، ويطالبون الفلسطينيين بالتوجه الى جنوب قطاع غزة -على الأقل كخطوة أولى- ، حتى تبدأ إسرائيل بالاجتياح البري، ثم تحاول تطبيق مخططها الحقيقي لاحقاً !
في الحقيقة، هذه ليست المرة الأولى التي ترسم اسرائيل مخططاً كهذا، ولو نبحث في تاريخ سكان غزة وأصولهم، نجد ان أغلبهم لجأوا الى غزة من حوالي مئتي قرية كانت تقع آنذاك جنوب فلسطين، وغالباً ما نسمع ان بعضهم مازال بإمكانه رؤية ارضه من خلال السياج الفاصل.
في حرب عام 1948 ، أتبعت اسرائيل الاسلوب نفسه من الحرب النفسية وادعاء الحرص على سلامة المدنيين التي نشهدها اليوم، وقامت بالطلب من السكان ترك منازلهم عن طريق اسقاط المنشورات بواسطة الطائرات فوق رؤوسهم ، تتضمن تهديدات بقتلهم إذا لم يلتزموا بتلك الدعوة. وبالفعل قامت القوات الاسرائيلية بقصف القرى الفلسطينية، وقتلت المئات من المدنيين الذين رفضوا الاستجابة لطلب الجيش الاسرائيلي، ثم تركت لهم منفذاً واحداً للهرب بإتجاه غزة ليهربوا من خلاله، ما اضطر اغلب من بقوا على قيد الحياة الى الهرب لقطاع غزة بإعتباره منطقة آمنة. ووقتها صدر قرار الأمم المتحدة رقم 194 في ديسمبر/ كانون الاول من عام 1949 الذي يكفل لهم حق العودة، وبالطبع فإن إسرائيل رفضت الالتزام بالقرار، وبقي الهاربون من قراهم في غزة، وتحولوا الى لاجئين في بلادهم، دون التفريط بحقهم في العودة.
هذه السيناريو تسعى اسرائيل الى تطبيقه اليوم مرة أخرى ، وهي تراهن على ان المعركة البرية، واستخدام القوة المفرطة فيها ، بعد ان حصل رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو على ضوء أخضر غير مسبوق من بعض قادة دول العالم، لاستخدام القوة، وضمان عدم التحرك ضده ، او الاحتجاج على خرقه للقانون الدولي الانساني، تراهن إسرائيل أن سكان غزة، وإن رفضوا الاستجابة للطلب الاسرائيلي الآن، فإن المرحلة اللاحقة ومقتل الكثيرين منهم والاجتياح العسكري للقطاع، كفيل بدفع من يبقى حياً منهم الى الهرب اولاً الى جنوب غزة، ومن ثم تبدأ الصفحة الثانية من المخطط، وهي ارغامهم على الهرب الى سيناء المصرية، ليستوطنوا هناك، رغم الرفض المصري لهذا المخطط لكي لا تساهم في التطهير العرقي لسكان غزة! لكن إسرائيل تراهن على هروبهم الى سيناء ، ثم تغلق الحدود بوجههم ولا تسمح لهم بالعودة الى ديارهم.. تماماً كما حصل عام 1948.
إن إدعاءات اسرائيل بحرصها على حياة المدنيين، من أجل تنفيذ مخططها الحقيقي بإفراغ غزة من سكانها، لا يمكن تصديقه، خاصة مع سقوط حوالي ألفين مدني بصواريخهم، اغلبهم من الاطفال والنساء، وإصابة حوالي تسعة آلاف شخص آخرين حتى الان، وهدم مئات المنازل السكنية على رؤوس أصحابها.
إن مخطط إسرائيل بترحيل الفلسطينيين الى سيناء المصرية، والذي بدأ بدعوات من اليمين الاسرائيلي ، الذي يتحجج بإن لا مستقبل آمن لإسرائيل ما لم يتم طرد سكان غزة بالكامل الى مصر، بات اقرب للتطبيق مع اقتراب المعركة البرية، خاصة إذا ما استمر دعم دول الغرب الى اسرائيل ، بطريقة غير مشروطة، تضمن لها خرق كل القوانين الدولية الانسانية من أجل القضاء على حركة حماس وإنهاء وجودها، رغم ادراك الغرب ان اسرائيل تهدف الى أبعد من ذلك!
وربما ما يساعد على تطبيق هذا المخطط، هو إضطرار الكثير من اهالي غزة الى الهرب من نيران المعارك للحفاظ على حياة الاطفال والانسان، مما يضطرهم الى سلوك هذا الطريق المر!
لكن هذا الطريق غير معبّد كما يعتقد الطرف الإسرائيلي، فما زال هناك خطر اندلاع حرب اقليمية، ودخول أكثر من طرف (ايران وحلفائها) الى الصراع ، وفتح جبهات جديدة مع اسرائيل من لبنان او سوريا. وما زال قضية ملف الاسرى الذين بحوزة حركة حماس، تلعب دوراً بارزاً في المواجهة، والتي قد تقلب الحسابات في أية لحظة، وتُرغِم دول الغرب على ايقاف مشروع اسرائيل بإفراغ غزة من سكانها، لان هذا السيناريو لا يمكن أن يأتي بالسلام الدائم، ولا يمكن ان يرضي حتى حلفاء إسرائيل او الدول العربية، وفي مقدمتها مصر والاردن، حيث يدرك الجميع مخاطره، وما يمكن ان ينتج عنه من مخاطر إلاخلال باستقرار المنطقة في المرحلة التي تلي تنفيذ هذا السيناريو.
رئيس تحرير صحيفة يورو تايمز السويدية الناطقة بالعربية