مؤرخ ومفكر فرنسي يتنبّأ بانهيار العولمة وتفكك أوروبا
“سقوط العالم والجغرافيا السياسية للصراعات والتنافس في عام 2023” كتاب جديد للمؤرخ الفرنسي جان بابتيست نوي، من إصدار دار “أرتيلييه جيوفانجيلي” للنشر، يرى فيه أنّه وبعد قرون من الريادة العالمية لأوروبا، فإنّ التحليل المُبتكر للجغرافيا السياسية لفهم العالم الجديد الناشئ بشكل أفضل، يدلّ على أنّ القوى الكبرى تفقد هيمنتها، وأوروبا المعاصرة تشهد مرحلة صعبة من التغيير والتفكك يبدو أنها لم تكن تتوقعها ولا تُدركها جيداً.
ومن خلال استدعاء أفكار الفلاسفة وأبرز المفكرين الاستراتيجيين، يرسم بابتيست نوي صورة لعالم قديم في حالة تراجع، ويتوقع عصراً جديداً مختلفاً للغرب، حيث هناك اليوم صراعات وتنافسات متعددة، عسكرية وسياسية، ولكن أيضاً اقتصادية وحضارية، صراعات من أجل السيطرة على الطاقة، وحروب العملات، وعسكرة آسيا، والمواجهة بين الصين والولايات المتحدة، وروسيا والغرب.
أوروبا ساحة للقتال
وبرأيه فإنّ السيوف مسلولة في كل مكان، وأوروبا هي بالفعل إحدى ساحات القتال الرئيسية، بما في ذلك حروب الأراضي، حيث يُشكّل بحر البلطيق نقطة توتر بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، فضلاً عن الحرب الأوكرانية، وتباين ولاء الدول في شرق أوروبا ما بين موسكو وبروكسل، ولا تقل الصراعات الخارجية، وأهمها سوريا وناغورنو كاراباخ، خطورة على مُستقبل الاتحاد الأوروبي الذي باتت تحكمه السياسات العاطفية وليس المصالح.
يحمل جان باتيست نوي شهادة الدكتوراة في التاريخ الاقتصادي، وهو رئيس تحرير مجلةConflits ، التي تُساهم في تجديد المدرسة الفرنسية في الجغرافيا السياسية. وهو أستاذ جامعي، ومؤلف العديد من الأعمال في الاقتصاد السياسي والتاريخ الدبلوماسي.
يقول في كتابه “إذا نظرت إليه اليوم عن كثب، فإنّ العالم المعاصر يبدو وكأنّه يعود لأحوال القرن التاسع عشر، في تجزئته وتعدديته، ولكن في ظل التكنولوجيا والعولمة المتأصلة في بداية الألفية التي من المفترض أن تعمل على التقارب وليس التباعد. إلا إنّه على العكس تماماً، فإنّ العالم اليوم أقرب ما يكون إلى التمزّق أكثر من أيّ وقت مضى، وفي الوقت نفسه يخضع لاضطرابات تُجزّئه بما في ذلك النزاعات المحلية، ورفض تدخل الغرب، وعودة الثقافات الوطنية للدول”.
واستعاد المؤلف بفكر الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه، المعروف بنظريته في الميديولوجيا، وهي نظرية نقدية في انتقال المعنى الثقافي في المجتمع البشري على المدى البعيد، والذي كان أوّل من رأى بوضوح تمزّق العالم من جديد عندما تحدث عن “ما بعد الحداثة القديمة”، وهو تناقض استفزازي متعمد لإظهار أنّ العولمة، من خلال إنتاج الطابع الرسمي، تنتج انعكاساً للتمايز.
العولمة النيوليبرالية
ووفقاً لما جاء في الكتاب، فإنّ ما بعد الحداثة المعولمة يخلق فراغاً في الانتماء، لدرجة أنّه في حالة حدوث أزمة في المؤسسة السياسية، فإنّ الجذور العشائرية والقبلية هي التي تعود إلى السطح لتشكل نماذج جديدة لتحديد الهوية. وعلى هذا الأساس، أعلن دوبريه، في عام 1971، أنّ العولمة “النيوليبرالية” تتمثّل في تفكيك الدول القومية، وسوف تؤدي إلى ظهور القبلية الجديدة: أي القبيلة في ظلّ الأمة.
ويرى المؤرخ والمفكر الفرنسي في كتابه أنّ صحوة السكان الأصليين والهويات ليست معارضة في الأساس للعولمة، ولكنّها إحدى عواقبها، إذ لا يُمكن أن توجد بدون العولمة. وهي رغبة العديد من الشعوب والدول في الوصول إلى التطور التكنولوجي (الحداثة)، ولكن مع رفض تام للتغريب (إنهاء العولمة). ولذلك فإنّ هناك ظاهرة مزدوجة تتمثل في التوحّد والتشرذم، وهذا التشظّي هو نتاج رغبة ثقافية مقلدة وعملية انبهار ونفور، لذا ترى بعض الدول أنّه يجب تقليد الغرب في قوته، ولكنّها وشعوبها تقف في ذات الوقت ضدّ قيمه.