تحقيقات ومقابلات

“عمى الألوان” الفرنسي يقرّب مارين لوبان من الإليزيه

 “أنتم بارعون في أشياء كثيرة، ونحن نعترف لكم بالريادة في منحدرات التزلج، وفي مزارع الكروم، بل وفي المطبخ. لكن عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع التنوع الاجتماعي، فإننا نفعل ذلك بشكل أفضل”.

لا يجوز لأي مؤسسة فرنسية جمع بيانات عن الأصل الإثنيهكذا استهل الكاتب الصحفي البريطاني تريفور فيليبس نصائحه للفرنسين في معرض مقاله بصحيفة “التايمز” تعليقاً على الأحداث الجارية في فرنسا.
ورأى أنه بعد أيام عديدة من أعمال الشغب التي عمّت مدنكم، فتح ماكرون الباب أوسع قليلاً أمام رئاسة مارين لوبان باستجابة ضعيفة غير حاسمة، حيث ظهر أولاً ينتقد الضابط الذي أطلق النار على نائل مرزوق البالغ من العمر 17 سنة عند نقطة تفتيش مرورية، ثم بدل موقفه 180 درجة لدعم الشرطة التي وصفت المتظاهرين، ويُفترض أن يكون من بينهم أم الشاب، بأنهم مجرد “حشرات”.

 مشكلة ثقافية وعرقية

ويضيف الكاتب: تطلب الأمر 45 ألف شرطي لكبح جماح الجولة الأخيرة من الصراع الإثني. وربما يكون بعض هذه الاضطرابات نتاج تأجيج بعض العملاء المحرضين، لكن أقصى اليسار كان لديه الحطب اللازم لإضرام النيران. فالفقر والإقصاء الاجتماعي أمران مهمان، لكن المشكلة الأساسية التي تواجه قصر الإليزيه مشكلة ثقافية وعرقية لا اقتصادية.

ولفت إلى أسباب استياء الأقليات معروفة جيداً. وبصرف النظر عن الطبقة الاجتماعية، فإن الشباب السود على كلا ضفتي القناة الإنغليزية على دراية إلى حد السأم بجريمة “القيادة رغم كونك أسود”، “Driving while black، (ووهي تفترض أنه يمكن الشرطة أن توقف سائق سيارة لمجرد أنه أسود، وليس لأنه ارتكب مخالفة مرورية) لكن في لندن، تعتبر فرص التفتيش والتوقيف للسود حوالي 6 أضعاف المتوسط، وأما في باريس فالمعدل 20 ضعفاً. والأهم من ذلك في هذا الصدد أن “القيادة رغم كونك أسود” لم تتحول بعد إلى جريمة يعاقب مرتكبها بالإعدام في المملكة المتحدة. وبعد إطلاق النار على نائل، صارت الأقليات الفرنسية تشك في أن عقوبة “القيادة رغم كونك أسود” صارت الآن أكبر من الجريمة بكثير.

 فصل عنصري

ومضى الكاتب يقول إن المستوى الصادم للفصل العنصري في المجتمع الفرنسي يحكم على الأقليات بالعيش في عالم منفصل تتسم فيه المنازل والمدارس والمستشفيات ووسائل النقل روتينيّاً بأنها دون المستوى. ففي النهار تفخر باريس بطابعها العالمي. وأما في الليل فينخفض مؤشر “ثيل”، وهو مقياس لدفء الاندماج العرقي، بنسبة 30% حيث يستقل الملونون قطارات الضواحي إلى الغيتوهات التي يسكنونها.

صحيح أن العبارة الأقل جاذبية في اللغة الإنغليزية هي “لقد أخبرتك بذلك”، لكن حكام فرنسا تلقوا الكثير من التحذيرات. ففي عام 2005، صدمتهم أعمال شغب أسفرت عن اعتقال الآلاف وتفشي أعمال الحرق والنهب على نطاق واسع بعد موت شابين من أصل أفريقي صعقاً بالكهرباء أثناء اختبائهم من رجال الشرطة في محطة كهرباء فرعية.
ويضيف الكاتب: “في حينه، دعاني ساركوزي، الذي كان آنذاك وزير الداخلية، بصفتي رئيس مفوضية المساواة العرقية، لاقتراح كيفية الحيلولة دون وقوع المزيد من الاضطرابات. نصحتهم بضرورة كبح جماح الشرطة، وإنهاء الفصل العنصري في مدنهم، وجمع البيانات حسب الأصل الإثني ليتحقق لهم أمل مهما كان ضعيفاً في معالجة التمييز في التعليم والتوظيف. فلا يمكنك حل مشكلة ما لم تعرف شكلها وحجمها بدقة”.

حاول ساركوزي ذلك. فعند توليه سدة الرئاسة، أنشأ نسخة ضعيفة من المفوضية المعنية بالمساواة وحقوق الإنسان، ولكن لم يكن لها سوى تأثير ضئيل. واقترح جمع بيانات عن الأصل الإثني، على غرار التعداد السكاني، لكن المجلس الدستوري الفرنسي (الأبيض بالكلية) رفض هذا الاقتراح، معلناً أن الفكرة تتعارض مع روح الجمهورية. ولم يفعل خلفاؤه على المنصب شيئاً كثيراً لوضع حد لوحشية الشرطة.
ويضيف الكاتب “في عام 2020، طُلب مني تقديم أدلة على أسباب التغيير الضئيل الذي حدث، إلى تحقيق خاص تجريه الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي). وعندما سئلت عن الاختلافات في الفلسفة الرسمية بين المملكة المتحدة وفرنسا، أوضحت أن أدق وصف لنهجنا في بريطانيا هو التعددية الثقافية القائمة على مبدأ عدم التدخل، حيث نشجع الاستعراض العلني للتنوع لكننا نبذل قصارى جهدنا لئلا نسمح لعدم المساواة بالخروج عن السيطرة بمراقبة طريقة معاملة الفئات العرقية المختلفة في مجالات التعليم والصحة والعمل والعدالة الجنائية، بل والرياضة”.

عمى الألوان

وأما في فرنسا، على النقيض من ذلك، فالفكرة الأساسية هي أنه لا ينبغي مطلقاً، في جمهورية مكرسة للمساواة، الاعتراف رسمياً بالاختلافات العرقية، بل وتبنوا مصطلحاً جديداً وهو “عمى الألوان”، بمعنى أنه يُحظر على المواطنين إظهار رموز “تفاخرية” للتقاليد الدينية أو الإثنية في الأماكن العامة: فلا صلبان للمسيحيين ولا حجاب للمسلمين.
والأهم من ذلك كله، حسب الكاتب، أنه لا يجوز لأي مؤسسة فرنسية جمع بيانات عن الأصل الإثني. فعلى سبيل المثال، يعلم الجميع أن المدارس العليا التي تنحدر منها النخبة الفرنسية تميز ضد الملونين، لكن يُحظر جمع بيانات تثبت ذلك، وبالتالي لا يفعل أحد أي شيء حياله.

الأمر بالغ الأهمية أنه وأثناء الجائحة، عندما طال المرض الأقليات بشكل أكثر حدة، كان اتخاذ إجراءات لحماية الأقليات المستضعفة – وأي شخص آخر – شيئاً مستحيلاً؛ لأن الهيئات الصحية الفرنسية لم تكن لديها بيانات لتحديد المواقع التي تركز فيها جهودها. وربما مات أناس ما كان ينبغي أن يموتوا.
ومن منظور سكان الضواحي، لا يقل “عمى الألوان” عن كونه تستّراً من جانب الدولة، فهو اختيار متعمد لجعل الملونين غير مرئيين رسمياً. أما على أرض الواقع، فالشيء الوحيد الذي أصبحت فرنسا عمياء عنه هو احتياجات مواطنيها من الأقليات.
يقول الكاتب: “ليس صعباً أن ندرك الأسباب التي تدفع الرجال والنساء الفرنسيين السود والعرب بالتالي إلى تبني أبرز الأساليب التقليدية في الجمهورية للفت انتباه الدولة، والنزول إلى الشوارع، وإضرام النار في أي شيء قابل للاحتراق”.

أحزاب مشلولة

ومع ذلك، يضيف الكاتب، فالأحزاب التقليدية في فرنسا مشلولة بشكل مزمن بسبب خوفها من أن يستحضر الحديث عن العرق ذكريات معاداة السامية.
فاليساريون يصرون على ضرورة عزو كل أشكال السخط الاجتماعي إلى الطبقية. وأما الوسطيون فحائرون، حيث يقولون إن أي اعتراف رسمي بالظلم العنصري الممنهج يعتبر هدية لليمين المتشدد. ويشكو حزب مارين لوبان “التجمع الوطني”، الرابح الأكبر من هذه الفوضى، بعجرفة بالغة من تعرضه للشيطنة لتأكيده أن الغالبية العظمى من المشاكل في فرنسا (الجريمة والنقص في المساكن) هي نتاج الهجرة غير المنضبطة.

وتقول لوبان إن الأمر لا علاقة له بالعرق، على الرغم من أنها تصوب أصابع الاتهام بدقة بالغة إلى الأفارقة. وبرفض الاعتراف بحقيقة الاختلاف العرقي، تسلم النخب الفرنسية مفاتيح الإليزيه إلى مارين لوبان، أكبر مهووسة عنصرية على الإطلاق.

24

زر الذهاب إلى الأعلى