أحمد محمود عجاج: ماكرون وحلم الاستقلال الاستراتيجي
لا أحد يعرف بالضبط كيف يفكر ماكرون، ولا أحد يمكن أن يفسر هوسه بفكرة الاستقلال الاستراتيجي عن أميركا؛ هذا الهوس أدى في زيارته مؤخرا للصين إلى أزمة حقيقية في العلاقة مع أميركا، وكذلك أزمة داخل الاتحاد الأوروبي. بدأت القصة بتصريحات للرئيس ماكرون لصحيفتين مهمتين قال فيها إن أكبر خطر تواجهه أوروبا أن تجد نفسها محشورة في نزاع بين الصين وأميركا. لم يكتف بذلك، بل أكد أن على أوروبا ألا تتبع أميركا كالأعمى، وطالب بأن تكون أوروبا كتلة ثالثة أو قطبا ثالثا يقف خارج الاصطفاف الصيني الأميركي. هذه التصريحات ليست غريبة عن ماكرون لأنه سبق أن عدّ أن حلف الناتو ميت دماغيا، وأن على أوروبا أن تعتمد على نفسها بعيدا عن أميركا التي لديها أجندتها الخاصة، ومصالحها التي قد تتضارب مع المصالح الأوروبية؛ بمعنى آخر استقلال استراتيجي عن أميركا. هذه الرؤية تعززت إبان عهد الرئيس ترمب، وبعد خروج أميركا المفاجئ من أفغانستان، ويبدو أنها لا تزال تكبر في عقل الرئيس ماكرون الذي يرى نذر حرب قادمة بين الصين وأميركا، ويعتقد أن أوروبا ستجر غصبا لصراع لا «ناقة لها فيه ولا جمل». الناظر إلى هذه الأقوال قد تعجبه للوهلة الأولى، لكن التعمق فيها يدل على قصور نظر، وعلى نرجسية، والأكثر على ضعف كبير في تقدير الواقع السياسي الأوروبي والعالمي.
ينبع قصر النظر من قلبِ الأولويات، بمعنى أن ماكرون بدل أن يجري مباحثات وجولات مع حلفائه الأوروبيين للتوصل إلى سياسة أوروبية موحدة حول الصين وموقفها من تايوان وأوكرانيا والنظام العالمي القائم ثم مناقشتها على طاولة الرئيس الصيني، ذهب بفكرة «الاستقلال الاستراتيجي» التي لا تحظى بقبول أوروبي، فأعطى القيادة الصينية ما تنتظره من انزياح أوروبي عن الموقف الأميركي المتشدد مع الصين؛ فاستراتيجية الصين الجلية هي قطع صلة الوصل بين أوروبا وأميركا، بينما استراتيجية أوروبا التضامن مع أميركا؛ لكن ماكرون بنظريته قدم خدمة جليلة لرئيس الصين بأن أظهر جليا انقسام أوروبا، وعجزها عن إيجاد موقف موحد. ولا شيء يسر قلب القيادة الصينية، التي تتابع بدقة سياسات وتحركات قادة أوروبا وتدرس أدق التمايز والاختلافات بينهم، أكثر من سماع هذه الأقوال، وتعمل على تعزيزها لتحقيق الانفصام بين عدوها الأميركي وأصدقائه الأوروبيين. لذا كان تصريح وزيرة الخارجية الألمانية معبرا عن الانقسام الأوروبي بقولها: إن «أوروبا لا يمكنها أن تكون على الحياد في النزاع بين الصين وتايوان»؛ هذا التصريح يشكل رسالة حازمة لماكرون بأنه أخطأ وعليه التراجع. أما قادة أوروبا الشرقيون الذين يعرفون ماذا يعني التمدد الصيني والتحالف الروسي مع الصين، فعبر عنهم رئيس وزراء بولندا الحالي بقوله:
إن ما نحتاجه ليس «الاستقلال الاستراتيجي بل بناء الشراكة الاستراتيجية مع أميركا». لم تؤيد دولة أوروبية واحدة فكرة ماكرون، ومع ذلك يصر على فكرته.
شتاء كاد أن يحيل حياتهم جحيما. وقس على ذلك قدرات أميركا الكبرى ماليا واقتصاديا، ونفوذها في العالم. لذلك فإن فكرة ماكرون بأنه يمكنه اللعب على تناقضات الصين وأميركا وتعزيز مكاسب أوروبا اقتصاديا من الصين وعسكريا من أميركا، هي فكرة معطوبة، لأنها تنطوي على قراءة خاطئة لمسار التاريخ؛ بأن إمبراطورية (أميركا) تدافع عن هيمنتها، وقوة صاعدة (الصين) تريد سلبها الريادة.
يذكرنا قصر نظر ماكرون، ونرجسيته، وخطأ تقديره للواقع، بمقولة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر بأن «صانعي السياسة الفرنسية لا يرون الواقع بل يتخيلونه»؛ هذا التباين سيقود منطقيا إلى الفشل. ليس عجبا إذن أن نرى ماكرون يقفز في المجهول ظناً أنه الواقع.
نقلا عن الشرق الأوسط