الشارع الفرنسي في مواجهة الحكومات.. وقانون التقاعد إشكالية متواصلة
باريس: ميشال أبونجم
لا شيء يشي، حتى اليوم، بأن الحركة الاحتجاجية التي انطلقت في فرنسا منذ 19 يناير (كانون الثاني) الماضي، رفضاً لخطة الحكومية لتغيير نظام التقاعد، آخذة بالتراجع رغم التصديق على مشروع القانون يوم الاثنين الماضي، في البرلمان، ومن المرجح أن يصبح نافذاً بعد أن يعطي المجلس الدستوري رأيه في مدى ملاءمته للنص الدستوري. كذلك، لا شيء يدل على أن الرهان الحكومي على تراجع التعبئة مصيب. وبعد أن كان منتظراً أن تنتج تصريحات الرئيس ماكرون التلفزيونية يوم الأربعاء تهدئة، فقد جاءت مفاعيلها عكسية تماماً، إذ انتشت التعبئة وازدادت أعداد المتظاهرين في باريس وبقية المدن الكبرى والمتوسطة. والأهم من ذلك أن سلمية المظاهرات الجرارة التي انطلقت طيلة أيام التعبئة الثمانية آخذة بسلوك نهج جديد يطبعه العنف والاشتباكات مع رجال الشرطة، وإشعال الحرائق، والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة من قبل مجموعات متطرفة مرتبطة، وفق الأوساط الأمنية، بتنظيم «البلاك بلوك» اليساري المتطرف الفوضوي، فيما عنف رجال الشرطة وعناصر قمع الشغب يتزايد يوماً بعد يوم. وأفاد وزير الداخلية صباح أمس، بأنه تم، يوم الخميس، القبض على 457 شخصاً، فيما أصيب 441 عنصراً من الشرطة والدرك. وبحسب جيرالد دارمانان، فإن 903 حرائق اشعلت في باريس وحدها. وما حصل في العاصمة حصل مثله في المدن الأخرى، ومنها نانت ورين ولوريان وروان وغيرها.
بيد أن ما تعيشه فرنسا هذه الأيام ليس جديداً، لا بل إن التقليد الفرنسي يقول إن كل عهد يجلب معه حركاته الاحتجاجية بما تعنيه من مظاهرات وإضرابات وأعمال عنف وشغب. وتجدر الإشارة إلى أن القانون الفرنسي منذ عام 1864 يعترف بحق الإضراب الذي تحول إلى حق دستوري في الدستور الذي أقر في عام 1946، وثبت في دستور عام 1958.
ويطول الحديث عن الإضرابات والمظاهرات التي عرفتها فرنسا في الستين سنة الأخيرة، ومنها شكّلت علامات فارقة في بروز دور النقابات العمالية التي أنشئت أساساً للمطالبة بحقوق العمال، وتحسين ظروف عملهم ورواتبهم. وما قبل هذه الشريحة الزمنية، لا بد من الإشارة إلى التحولات التي شهدها عام 1936 مع الفوز الانتخابي لـ«الجبهة الشعبية» اليسارية التي عانت من مظاهرات مليونية صاخبة وإضرابات شاملة أعلنتها النقابات الرئيسية، وتضمنت احتلال المصانع وأماكن العمل وتعطيل الحركة وشل الاقتصاد. وانتهت إلى توقيع اتفاقيات برعاية رئيس الحكومة وقتها، الاشتراكي ليون بلوم، وأهم ما جاءت به اختصار أسبوع العمل إلى 48 ساعة وزيادات ملموسة في الأجور والرواتب، وأيضاً قبول أرباب العمل إعطاء العمال والموظفين إجازة سنوية من أسبوعين مدفوعة الأجر، وهي المرة الأولى التي يحصل فيها تطور من هذا النوع في التاريخ الفرنسي.
وقتها، لم يطرح ملف سن التقاعد والقانون لم يأتِ على ذكره. ولقد صدر قانون بذلك لأول مرة في عام 1945 مع إطلاق صندوق الضمان الاجتماعي، وأحد فروعه يتناول التقاعد، حيث حدد سن التقاعد بـ65 عاماً. وظل هذا القانون سارياً حتى وصول الاشتراكي فرنسوا ميتران إلى الرئاسة في عام 1981. وكان إصلاح قانون التقاعد أحد أول وأهم القوانين التي أقرها عهده، إذ أنزل سن التقاعد إلى 60 عاماً. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، فإن كل ما يسمى «قوانين إصلاح نظام التقاعد» يهدف إلى رفع سن التقاعد، إما لأن معدل الأعمار ارتفع كثيراً قياساً، وإما لإبقاء تمويل نظام التقاعد قائماً بعد الارتفاع الملموس لأعداد المتقاعدين وارتفاع مدة حصولهم على معاشات تقاعدية.
ربيع 1968 وسقوط ديغول
يشكل ربيع عام 1968 محطة فاصلة في الحراك الاجتماعي والاقتصادي الفرنسي. ففي عز الإضرابات والمظاهرات، نزل إلى الشوارع في كل أنحاء فرنسا ما لا يقل عن 10 ملايين مواطن. وعرفت المظاهرات والإضرابات طيلة 3 شهور شلل الاقتصاد والحياة العامة وإقامة حواجز ومتاريس ومعارك شوارع بين مئات الآلاف من المحتجين ورجال الأمن. وشكّل انضمام طلبة جامعة السوربون القائمة في الحي اللاتيني في باريس، وتلامذة المدارس الكبرى، دفعاً كبيراً للحراك الذي كاد يطيح بنظام الرئيس الجنرال شارل ديغول.
ومع هذا الحراك، نشأ ما يسمى «جيل ربيع 1968» وممثله الأشهر الطالب الألماني – الفرنسي دانيال كوهين بنديت، الذي أطلق عليه لقب «داني الأحمر». ولاحقاً، انتخب نائباً في البرلمان الأوروبي ومارس مهنة الصحافة وبقي رمزاً لربيع 1968. وكانت خلاصة الحراك التوصل إلى ما يسمى «اتفاقيات غرونيل»، التي مكنت الموظفين والعمال والأجراء من زيادة رواتبهم بنسبة 35 في المائة، وخفض ساعات العمل الأسبوعية إلى 40 ساعة، وتعزيز حقوق العمال والنقابات. ولم تطرح وقتها إشكالية سن التقاعد، أو بالأحرى لم تكن مركزية. لكن ديغول دفع الثمن لاحقاً عندما طرح في استفتاء عام التعديلات الدستورية التي أراد موافقة المواطنين عليها. إلا أن هؤلاء خذلوه، فلم يتردد للحظة واحدة في الاستقالة من منصبه. ومع مجيء رئاسة فرنسوا ميتران، كان همّ حكومته الأولى برئاسة الاشتراكي بيار موروا إنجاز وعود ميتران الـ110، وعلى رأسها الوعود الاجتماعية. ولم يخلُ عهده من المظاهرات والإضرابات. إلا أنها لم تكن اجتماعية بل مجتمعية – تعليمية وتربوية، وأهمها موضع المدارس الخاصة إلى جانب المدارس الرسمية، ما أدى إلى نزول مئات الألوف من الفرنسيين المحافظين إلى الشوارع، وإعلان الإضرابات «دفاعاً» عن حرية التعليم ودعماً للقطاع التعليمي الخاص.
شيراك: التراجع تحت ضغط الشارع
مع انتخاب اليميني جاك شيراك رئيساً للجمهورية في عام 1995 وتعيينه ألن جوبيه رئيساً للحكومة، كان الهم الأول للسلطات إصلاح قانون الضمان الاجتماعي، ومن ضمنه نظام التقاعد بسبب العجوزات المتراكمة التي كان يعاني منها. وترافق ذلك مع عزم الحكومة على تعديل القوانين الناظمة لعمال السكك الحديد، والجمع بين نظام التقاعد الخاص بالموظفين الحكوميين والمعمول به في القطاع الخاص. وما لم تأخذه الحكومة بعين الاعتبار تشكل جبهة نقابية ومطلبية واحدة رافضة لخططها بالجملة. وطيلة شهرين، عرفت فرنسا مظاهرات وإضرابات في القطاعين العام والخاص. وتفيد أرقام يوم 12 ديسمبر (كانون الأول) بأن ما لا يقل عن مليوني فرنسي نزلوا إلى الشوارع، وزاد الأمر خطورة مع انضمام سائقي القطاع الخاص إلى الإضراب بالتوازي مع إضراب موظفي شركة السكك الحديد وإضراب النقل العام في شبكة المترو والحافلات والقطارات وبعض القطاع الجوي، ما جعل التنقل في البلاد بالغ الصعوبة وأدى إلى شلل الاقتصاد وتدهور الحياة العامة. وكانت النتيجة أن الحكومة اضطرت إلى سحب مشروعها بدفع من الرئيس شيراك، الذي عمد بعدها إلى حل المجلس النيابي. وكم كانت خيبته كبيرة عندما خسر اليمين الانتخابات، واضطر شيراك إلى القبول برئيس حكومة اشتراكي (ليونيل جوسبان) وحكومة يسارية.
وفي ولايته الرئاسية الثانية، واجه شيراك أوضاعاً اجتماعية مشابهة مع مشروع رئيس حكومته وقتها، دومينيك دو فيلبان، يتناول الشباب وتسهيل دخولهم ميدان العمل. إلا أن ردة الفعل العامة كانت الرفض المطلق. وخلال 3 أشهر، عرفت فرنسا احتجاجات ومظاهرات جامحة جمعت بين الشباب والنقابات. وبنتيجتها، اضطر دو فيلبان إلى سحب مشروعه، ما شكّل هزيمة ثانية لشيراك. وقارن كثيرون بين هذه الحركة وتلك التي حصلت زمن رئاسة فرنسوا هولند، الذي سعت وزيرة العمل وقتها ميريام الخمري إلى تعديل قانون العمل، ما أفضى إلى حركة احتجاجية واسعة.
ساركوزي ـ ماكرون: وحدة نهج
ثمة ما يجمع بين هذين الرئيسين الأسبق والراهن، وهو أن كليهما سعى إلى تعديل قانون التقاعد ورفع سنه. ساركوزي من 60 إلى 62 عاماً، وماكرون من 62 إلى 64 عاماً. وفي عام 2010، عرفت فرنسا 10 أشهر من المظاهرات وأسابيع طويلة من الإضرابات التي طالت قطاعات رئيسية مثل الطاقة والنقل والتعليم والوظيفة العمومية. وهي نفسها القطاعات التي تتظاهر وتضرب منذ بداية العام الحالي. ساركوزي رفض الانصياع لمطالب الشارع والمضربين، وما زالت جملته الشهيرة «لا يمكنني أن أقبل أن عمل ملايين من الفرنسيين يؤخذ رهينة»، مشيراً بذلك إلى تعطيل الحياة الاقتصادية ودورة الأعمال العادية. ويوم 23 سبتمبر (أيلول) 2010، نزل إلى الشوارع ما لا يقل عن 3 ملايين نسمة في 239 مدينة. واعتمد ساركوزي أسلوب القوة في التعامل مع المضربين بالقطاعات الحيوية، مثل مصافي تكرير النفط، حيث أرسل قوات الدرك لفك الاعتصامات وفتح الطرقات. ولأن ساركوزي كان يتمتع بأكثرية مريحة في البرلمان، فقد تم التصويت لصالح مشروع القانون في مجلس الشيوخ والنواب. ومع حلول شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، تراجعت الإضرابات والمظاهرات وانتهى الحراك. إلا أن الرد على ساركوزي كان إسقاطه في الانتخابات الرئاسية التي هزمه فيها الاشتراكي فرنسوا هولند.
ليس ما يعاني منه ماكرون حالياً، أمراً جديداً. فقد عاش تجربة قاسية مع حراك «السترات الصفراء» التي كادت تطيح بعهده الأول. فصور الحرائق في جادة الشانزليزيه وتحولها إلى ساحة حرب لم تُمحَ بعد من الذاكرة. كذلك سارت المظاهرات وحصلت الإضرابات في 2019 و2020 مع مشروعه الأول لتعديل نظام التقاعد الذي كان يدفع به إلى الأمام أدورا فيليب، رئيس الحكومة، ولم يتم طيه إلا مع استفحال جائحة «كوفيد – 19». إلا أن الرئيس الفرنسي عاد وجعله أحد رموز ولايته الثانية. وها هو يعاني من حراك ينشط مجدداً، ومال إلى العنف كما ظهر يومي الخميس والجمعة الماضيين. ويبدو أن ماكرون يريد انتهاج خط ساركوزي الرافض للشارع، وهو ما أكد عليه أمس مجدداً في مؤتمره الصحافي في بروكسل.
نقلا عن الشرق الأوسط