ماكرون ماض في قانون التقاعد ويرفض الانفصال عن رئيسة الحكومة
باريس: ميشال أبو نجم
استبق الرئيس الفرنسي لقاءه الصحافي المتلفز والمنتظر، ظهر أمس، بتسريب الرسائل الرئيسية التي أراد إيصالها إلى الفرنسيين بمناسبة الاجتماعات المتلاحقة التي عقدها في قصر الإليزيه، مساء الاثنين وطيلة يوم الثلاثاء، مع الحكومة والوزراء المعنيين ورؤساء الأحزاب والمجموعات النيابية الداعمة له. وهذه الرسائل ثلاث؛ أولاها الرفض المطلق لحل البرلمان، وللتخلي عن الحكومة ورئيستها إليزابيث بورن، ورفض عرض إصلاح قانون التقاعد في استفتاء شعبي. وثانية الرسائل رفض التراجع عن خطته الإصلاحية، وأما الثالثة فهي التأكيد على شرعية ما يقوم به واعتبار أن الشرعية المنبثقة من صناديق الاقتراع (وقد أعيد انتخابه في الربيع الماضي)، تتجاوز شرعية الحراك في الشارع، وبالتالي التمسك المطلق بأصول اللعبة الديمقراطية.
وفي اللقاء المتلفز الذي دام نصف ساعة، لم يحد ماكرون عن هذا الخط؛ إذ أكد، وبقوة، أن القانون الذي أقر في البرلمان من غير تصويت وباللجوء إلى الفقرة 49 – 3 من الدستور «سيصبح نافذاً مع نهاية العام». إلا أنه يتعين عليه انتظار حكم المجلس الدستوري الذي طلبت منه الحكومة، وكذلك المعارضة، النظر في مدى ملاءمته للنصوص الدستورية. بعد ذلك، سيعمد ماكرون إلى إصداره بمرسوم ينشر في الجريدة الرسمية. بالمقابل، لم يشر الرئيس الفرنسي، لا من قريب ولا من بعيد، إلى مسعى نواب المعارضة لطرحه على التصويت في إطار «استفتاء بمبادرة شعبية». وهذا المسار بالغ التعقيد؛ إذ ينص القانون الذي أقره في العام 2015 على ضرورة أن يتقدم به خمس أعضاء مجلس النواب والشيوخ ودعم عشر «واحد من عشرة» من المسجلين على اللوائح الانتخابية. وبالنظر لنتائج التصويت على الثقة في البرلمان، فإن المعارضة قادرة على جمع توقيع 185 عضواً من مجلسي النواب والشيوخ والعدد الضروري من الناخبين. لكن المدخل إلى ذلك هو قرار المجلس الدستوري.
وفيما كانت النقابات تتأهب لتاسع يوم من الاحتجاجات الشعبية والإضرابات، التي من المرتقب أن تطال قطاعات رئيسية مثل النقل والكهرباء والطاقة والمشتقات النفطية والتعليم بمختلف مستوياته والوظائف العمومية، تلبية لدعوة جماعية من النقابات المستمرة في المطالبة بالتراجع عن القانون الجديد، فإن ماكرون قطع عليها الطريق نهائياً وبشكل حاسم. وزاد على ذلك برفضه الاستجابة لمن يحثه على استبدال رئيسة الحكومة والقيام بتعديل وزاري. وفي هذا الصدد، أكد أن بورن «تحظى بكامل ثقته من أجل قيادة الفريق الحكومي»؛ لغرض «بناء برنامج حكومي»، ولكن أيضاً «توسيع الأكثرية» التي تدعمها في البرلمان. وشدد ماكرون على أن «لا أكثرية بديلة» عن تلك الموجودة اليوم، علماً بأن الأحزاب الثلاثة الداعمة له «النهضة والحركة الديمقراطية وآفاق» لا تتمتع بالأكثرية المطلقة، وأن بورن ملزمة بالمساومة تارة مع اليمين، وتارة مع اليسار؛ لتوفير الأكثرية اللازمة للتصويت على مشاريع القوانين التي تطرحها على التصويت. وليس واضحاً بعد كيف ستتمكن من «توسيع الأكثرية» بالنظر إلى العداء المستحكم بينها وبين تجمع أحزاب اليسار والبيئويين من جهة، وتشرذم حزب «الجمهوريون» اليميني المعتدل الذي صوت ثلث نوابه لإسقاط الحكومة من جهة أخرى. وللتذكير، فإن تسعة أصوات فقط كانت تفصل حكومة بورن عن السقوط في الجمعية الوطنية.
منذ منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، نزل ملايين الفرنسيين إلى الشوارع، وقامت عشرات الإضرابات، وبيّنت استطلاعات الرأي أن ثلاثة أرباع الفرنسيين لا يريدون مشروع قانون التقاعد. إلا أن ماكرون بقي متسلحاً بشرعيته المنبثقة عن انتخابه وعن انتخاب أعضاء الندوة البرلمانية الذين أقروا قانون التقاعد. وسبق للرئيس الفرنسي أن ميز بين «الشعب» الذي ينتخب وبين «الجماهير» أو «الغوغاء» التي تنزل إلى الساحات والشوارع وتلجأ إلى «العنف الأعمى» الأمر الذي يرى فيه «تهديداً للديمقراطية». ولا يبدي ماكرون أي ندم على تمسكه بإنفاذ القانون الجديد، معتبراً أن الإصلاح «ضروري»، وأن الطريقة الوحيدة لإنقاذ نظام التقاعد تمر من خلال رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً بحلول العام 2027. ولكنه اعترف بندمه على أمر واحد هو «إخفاقه في إقناع» المعنيين «بضرورة الإصلاح». ولم يفت الرئيس الفرنسي انتقاد النقابات التي «لم تقترح أي تسويات بل كان رفضها لمشروع القانون مطلقاً».
وبالنظر لتهاوي شعبيته، وفق ما تبينه استطلاعات الرأي، فقد رأى أنه «إذا كان لا بد من تحمل انهيار الشعبية، فإنه سيتحملها»، علماً بأن الدستور لا يجيز له سوى ولايتين رئاسيتين من خمس سنوات لكل منهما. وقد أمضى الأولى، ويقارب العام من الولاية الثانية.
كان واضحاً، أمس، أن ماكرون يريد قلب صفحة التقاعد بأسرع وقت ممكن، وذلك عن طريق «خريطة طريق» وإجراءات جديدة؛ أبرزها عزمه الطلب من الحكومة فرض «مساهمة استثنائية» على الشركات التي حققت أرباحاً «استثنائية»، بحيث يستفيد منها الموظفون والعاملون فيها. وما يدعو إليه ماكرون ليس فرض ضريبة إضافية على الشركات المعنية، بل فقط تمكين الموظفين من الاستفادة من وفرة الأرباح، منبّهاً من أن هذه الشركات تستخدم جانباً من أرباحها للمساهمين فيها من جهة ولشراء أسهمها الخاصة في البورصة من جهة أخرى، من أجل رفع قيمتها السوقية. ووفق الأرقام المتوافرة، فإن أول أربعين شركة متداولة في بورصة باريس حققت أرباحاً صافية العام الماضي وصلت إلى 142 مليار يورو. وحدها شركة «توتال إنيرجي» النفطية حصدت 21 مليار يورو من الربح الصافي، وهو مبلغ لم يسبق لها أبداً أن وصلت إليه.
إضافة إلى ما سبق، يريد ماكرون العودة سريعاً إلى «الحوار الجماعي» مع الشركاء الاجتماعيين، أي النقابات وأصحاب الشركات، حول ملف «العمل» والوظائف الصعبة، وحول الرواتب التي تقل عن الحد الأدنى، مؤكداً أن «يده ممدودة للعمل مع كل من يريد العمل معه». وفي سرد لأولوياته المقبلة، أشار إلى الاستمرار في توفير الوظائف وخفض نسبة البطالة المتراجعة، والمحافظة على الأمن والنظام، وتوفير مزيد من الإمكانيات للقضاء، ودعم القوات المسلحة، إضافة إلى الملفات التقليدية التي هي التعليم والبيئة والصحة. وباختصار، يريد ماكرون الاستمرار في مشروعه الإصلاحي لأنه «ليس لنا الحق في الجمود أو التوقف عن ذلك». ومن المشاريع اللاحقة قانون جديد حول ملف الهجرات الذي سيتأجل طرحه عدة أسابيع.
لم تتأخر الردود النقابية والسياسية على كلام ماكرون، وجاءت أكثريتها الساحقة منددة. فقد أعلن فيليب مارتينيز، أمين عام الاتحاد العمالي العام، أن ماكرون «استهزأ بالناس وعبّر عن احتقاره لملايين الأشخاص الذي تظاهروا» في الأسابيع الماضية، فيما اتهمه لوران بيرجيه، أمين عام الفيدرالية الديمقراطية للشغل، المائل إلى الاعتدال بشكل عام، بـ«الإنكار والكذب». وأثار تشبيه ماكرون لما حصل في مجلس النواب الفرنسي من شجارات واتهامات، بما شهده الكابيتول الأميركي عند تثبيت انتخاب جو بايدن أو ما عرفه مجلس النواب البرازيلي يوم تسلم لولا دا سيلفا الرئاسة، جان لوك ميلونشون رئيس حزب «فرنسا الأبية» اليساري المتشدد والمرشح الرئاسي السابق، الذي قال إن ماكرون «يعيش خارج الواقع»، ومرة أخرى «سكب علينا عبارات الاحتقار التقليدية»، معبراً عن تخوفه من أن تكون تصريحاته بمثابة «صب الزيت على النار».
أما أوليفيه فور، أمين عام الحزب الاشتراكي، فقد اتهم ماكرون بـ«السعي إلى اهتراء الوضع» واللجوء إلى الحجج التي عمد إلى استخدامها سابقاً. ورأت مارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرف، أن ماكرون «تحدث بشكل آلي وتسويفي، ما يبين بوضوح عزلته، وأنه فقد الشعور بالواقع وأي اتصال مع العالم الخارجي»، متهمة إياه بـ«الأنانية والبحث عن مصلحته الشخصية، وليس أبداً المصلحة العليا للشعب».
كل الأنظار تميل لما سيحصل في الشارع اليوم. ورهان الحكومة الحقيقي أن الناس قد تكون تعبت من التظاهر، وأن إقرار القانون في البرلمان سيجعلها تعتبر أن حراكها أصبح فاقداً للمعنى. وخلال 35 دقيقة، سعى ماكرون لتكذيب كافة التحليلات التي تحدثت عن «أزمة سياسية» و«أزمة نظام»، وعن ضعفه السياسي وعزلته وفقدانه الحلفاء السياسيين الذين يعول عليهم من أجل مواصلة تمرير مشاريع القوانين، وبالتالي حكم البلاد. والحال أن الأزمة موجودة والغلاء في الشارع لا يخفى على أحد، ولا شك أنه مصيب بقوله إن قانون التقاعد ليس السبب الوحيد؛ إذ إن الأزمة الحقيقة اليوم عنوانها الغلاء المتفشي، وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، وارتفاع مستويات التضخم، والتهديد بالتهميش، الذي تعاني منه الطبقات الهشة في المجتمع.
المصدر: الشرق الأوسط